ديوان الدوق.. نسائم حنين عمّانية | بقلم الكاتب الصحافي خالد جهاد
تعد الثقافة الأردنية ثريةً بمكوناتها، خاصةً بتنوعها وقادرةً على أن تكون مركز إشعاعٍ حضاري وتواصلٍ حيوي وهام ضمن محيطها كونها تمتلك العديد من المقومات التي تؤهلها لذلك، ولعل الطراز المعماري الذي يميز المباني المصنوعة من الحجر الأردني يعد أحد أهم الخصائص الجمالية التي تلفت نظر القادمين إلى الأردن والذي يتشابه مع التصاميم المعمارية في بقية بلاد الشام، والتي تعبر عن هوية البلاد وتشكل جزءًا بارزاً من ملامحها وذوق أهلها ومزاجهم، فالمعمار والتأثيث فنٌ قائم بحد ذاته يحمل روح صاحبه ولمساته، لذا اخترنا الحديث عن نموذجٍ راقٍ له وهو (ديوان الدوق)..
وهذا الديوان (وهو مصطلح يصف غرفةً كبيرة مفتوحة دائمًا للضيوف في المنزل العربي) بدءاً من اسمه يعد حالةً وجدانية خاصة تعود بالزمن إلى الوراء وتؤرخ لحقبةٍ بارزة من التاريخ الحديث كونه أحد أقدم الأبنية المُحافظ عليها، فتم بناؤه عام ١٩٢٤ من قبل أحد أعيان عمّان آنذاك السيد (عبدالرحمن ماضي) في (شارع الملك فيصل) بجانب (البنك العربي)، وتم استئجاره فيما بعد من قبل (البريد المركزي) لحكومة (إمارة شرق الأردن) الجديدة النشأة حتى نهاية الاربعينيات من القرن الماضي، وتحول هذا المبنى لاحقاً في العام ١٩٤٨ بعد النكبة الفلسطينية ولفترةٍ ناهزت نصف قرن إلى (فندق حيفا) ذائع الصيت..
لفت هذا المبنى انتباه السيد (ممدوح بشارات) في العام ٢٠٠١ فاستأجره من عائلة (ماضي) وأطلق عليه اسم (ديوان الدوق) وهو الملقب ب (دوق المخيبة) نسبةً إلى (قرية المخيبة) وهي (قرية زراعية أردنية جميلة في محافظة اربد تشتهر بالزراعة والمراعي).. وحينها فكر بدورٍ جديد للمبنى يقدم من خلاله أنموذجاً في الحفاظ على التراث والثقافة المحلية بكافة فروعها وأشكالها، وإعادة الألق والتوهج إلى العاصمة (فيلادلفيا) المعروفة اليوم ب(عمّان) إحدى أقدم مدن التاريخ، خاصة ً مع زحف العولمة على مختلف مناحي الحياة ..
تتكون الواجهة الرئيسية المطلة على (شارع الملك فيصل) المزدحم بالمشاة والسيارات من الحجر العمّاني الأبيض المنقوش بعناية، وتزينها أعمدةٌ ذات قممٍ منحوتة بدقةٍ بالغة، ونجد في منتصفها شرفةً واحدة مسيجة بقضبانٍ حديدية، كما شُيد السلم الذي يفضي إلى داخل البناء بالبلاط الأصفر المعتق الذي يبلغ عدد درجاته ٢٨ درجة، ويتكون (ديوان الدوق) بشكلٍ عام من خمس غرف مختلفة الأحجام، ولكنها جميعاً ذات سقفٍ عالٍ ومرتفع بجسورٍ قديمة من الحديد يربط فيما بينها صالونٌ متسع في الوسط، أما الأرضية فيغطيها بلاطٌ مربع الشكل باللونين الأسود والأخضر، وتتسم النوافذ بالإتساع فنرى على كل جانبٍ لها نافذتين واسعتين تزدانان بأقواسٍ حجرية تعلو تصميمها المميز، ولا يقدم هذا المكان التراث بشكلٍ مادي فقط بل يحاول استعادة الحالة ككل عبر معايشة تلك الحقبة القديمة من خلال استحضارٍ لأجواء الحكايا القادمة من قلب الماضي وتقديم بعض الطقوس والعادات التي تساعد زائري هذا الصرح على الإستمتاع بها، فعلى سبيل المثال يتم تقديم (الكنافة النابلسية) للضيوف من خلال إنزال حبلٍ معقود بطبق نحاسي من شرفة المبنى إلى أسفل الشارع، حيث يوجد أقدم متجر لبيع الكنافة في عمّان ( متجر حبيبة الذي افتتح عام ١٩٥٢) ثم يرفع الطبق إلى الشرفة مملوءًا بالكنافة التي تقدم ساخنةً للضيوف..
ولا ينبغي أن ننسى أن (ديوان الدوق) بات اليوم مركزاً ثقافياً يفتح أبوابه بإستمرار لكل المواهب في شتى ميادين الثقافة والفنون والآداب، فقد شهد الديوان منذ افتتاحه العديد من اللقاءات والنشاطات الأدبية والفنية المتميزة، كما تعقد بين الحين والآخر ندواتٌ ومناقشات حول تاريخ عمّان وفنونها، ويشارك فيها بعض الأمراء والكتّاب والمؤرخين والدبلوماسيين والأكاديميين والفنانين والمثقفين والطلاب وأصدقاء عمّان القديمة، ويجدر الذكر بأن السيد (ممدوح بشارات) يمتلك عدداً من البيوت الأثرية التي يعمل على ترميمها وخدمتها دوماً للحفاظ على الوجه المشرق والحضاري لمدينةٍ تمتلك جمالاً من طرازٍ فريد كعمّان، تفوح عطراً وتتنسم شعراً ولا يليق بها إلاّ الحب، فتهب نسائمها علينا كلما جال في الخاطر بعضٌ من صورها وكلما شدنا الحنين إلى حضنها..
خالد جهاد..
Post A Comment: