حكم التلفظ بالطلاق في الغضب | بقلم أ. د/ روحية مصطفى أحمد الجنش - أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
إن الحياة الزوجية تقوم على التفاهم والتراحم بين الزوجين والتغاضي عن الهفوات، وإقالة العثرات إذ أن الزواج آية من آيات الله العظيمة، وسماه الله تعالى ميثاقاً غليظاً، ووجود الأولاد يزيده قوة وتأكيداً ، وبالتفاهم والاحترام المتبادل يحدث الوفاق الذي تذوب على أعتابه المشكلات مهما عظمت.
وبداية أقول : الطلاق في الغالب لا يكون إلا في غضب ، فلا أعلم أحداً طلق زوجته وإن كان لها كارهاً إلا في غضب ، وهل من المنطق أن يهتز له عرش الرحمن ولا تهتز له مشاعر إنسان وتخرجه عن اعتدالها ، ورسولنا الكريم بين لنا أن الإنسان في غضبه قد يفعل أو ينطق مالو فكر بعقل مستقر لن يفعله ولن يقوله البتة فقال : " لا تغضب ،لا تغضب " البخاري ، لأن الغضب من الشيطان ، وإذا كان الغضب من الشيطان فبكل تأكيد سيدفع صاحبه إلى ارتكاب الحماقات ، ويزيد الأمر تأكيداً أن أعظم سعادة يتحصل عليها الشيطان هي التفرقة بين زوجين ، ونُعذر أننا بشر وتعترينا المشاعر الإنسانية المختلفة ، ومؤكد في الغضب تتغير حالة الإنسان ويخرج عن اعتداله النفسي ، وهذا التغير له درجات حسب السبب الذي أدى إلى الغضب :
# فقد يكون السبب ضعيف وبالتالى الغضب المترتب عليه ضعيف أيضاَ يستطيع المرء في أثناءه أن يتحكم في أقواله وأفعال ، فإذا تلفظ في هذه الحالة بالطلاق الصريح مختاراً عامداً في طهر لم يجامعها فيه يقع عليها الطلاق قولاً واحداً .
# وإن كان السبب الداعي إلى الغضب قوى أو تطور الحوار بين الزوجين إلى أن أخرج كلاً منهما عن القدرة على التحكم في أقواله وأفعاله وأغلق فيها العقل عن حسن التفكير والتدبر لعواقب الأمور ، بحيث يدفعه هذا الغضب إلى النطق أو التصرف بأشياء لو كان في اعتداله النفسي ماقالها ، فطلاق مثل هذا لا يقع على الراجح عندي من خلاف العلماء وهو ماذهب متأخري الحنابلة وكثير من المعاصرين ، ومن مظاهر هذا قول المرأة لزوجها في معرض المشاحنة : " إن كنت رجل طلقني ، أو إن كنت رجل وابن رجل طلقني "فمثل هذه الكلمة تُخرج الرجل عادة عن اعتداله النفسي .
أما إذا كان الغضب عارماً لعظم السبب المؤدي إليه بحيث جعل صاحبه مثل المجنون فاقدا للعقل والشعور بما يقول أو يفعل فمثل هذا لا يقع طلاقه عند جميع أهل العلم .
وفي الحقيقة الزوج وحده هو الذي يحدد طبيعة الغضب الذي نطق فيه بالطلاق ، حتى لا يكون مجرد الغضب الطبيعي الذي يعتري جميع البشر دافعاً للتحايل على الحكم الشرعيّ بعد إيقاع الطلاق والبحث عن مخارج وتتبّع رخص الفقهاء في ذلك ....
ولابد للمفتى أن يعلم حال الذى يطلق عند صدور كلمة الطلاق منه ويجعله يقسم بالله على حاله وأن الله يشهد عليه ثم يفتى له ، ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد قام بتحليف أبو ركانة عندما طلق زوجته ثلاثاً في مجلس واحد ، فقال له : " ما أردت بها " قال : واحدة يارسول الله ، فقال : صلى الله عليه وسلم : " والله ماأردت إلا واحدة ؟ " ، فقال أبو ركانة : " والله ماأردت إلاواحدة " أبو داود بإسناد حسن .
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" .رواه أحمد بإسناد حسن .
فمن رحمة الله تعالى بعباده أن تجاوز لهم عما وقع منهم على سبيل الخطأ، أو النسيان، كما قال الله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، وقال الله في جوابها: قد فعلت. أخرجه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه ) حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما . والغضبان مثل المخطئ والناسى والمكره إن لم يكن أشد منهم .
ومما يُستأنس به في حكم طلاق الغضبان " أن الله عز وجل عفا عن موسى عليه السلام عندما ألقى الألواح لأنه كان غضبان غضباً شديداً .
وعن أبي هريرة ( رضي الله تعالى عنه ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" ومعنى ذلك أن الغضب الشديد يفقد فيه الإنسان التحكم انفعالاته ، فهل من الرحمة التي هي مقصد مقصد إسلامي أن يُهدم البنيان الأسري بلفظ نطق به الزوج في حال الغضب الشديد ؟ اللهم لا ، فالطلاق لم يُشرع لساعة غضب تطيح بمستقبل أسرة . والله تعالى أعلى وأعلم .
Post A Comment: