معزوفة اللقاءات المثمرة - بقلم / خديجة الخليفي _ أديبة مغربية
معزوفة اللقاءات المثمرة - بقلم / خديجة الخليفي _ أديبة مغربية |
راق لي في محتوى هذا المقال، الحديث عن أمر يسهم بسخاء في بناء ذاتية الإنسان وتنمية ذوقه: اللقاءات المثمرة. ذلك لأن المضمون الذي اخترته هنا كمادة للتأمل، يدعو فكر وخيال متلقي هذه الكلمات إلى السفر في عمق هذا السرد، لتتشكل لديه صورا، قد تصل به إلى تزكية مصداقية دور هذه اللقاءات في تحقيق توازن الفرد في المجتمع. ليس هذا فحسب! بل إن ثمار هذه المادة تبني لدى الفرد قيما ثقافية تسمو به نحو مستقبل راق.
وأرغب هنا، في وارد هذا الحديث، تناول موضوعي من زاوية مختلفة ترتبط ارتباطا وثيقا بإدراك الجمال. وهكذا انتقيت من قفة اللقاءات المثمرة، اللقاءات الثقافية خاصة حفلات توقيع الكتب وإهدائها.
يعتقد البعض أن حفلات توقيع الكتب، هي حفلات دعاية وإشهار، هدفها بيع المنتوج الثقافي. ولا عيب في ذلك؛ فالدعاية واجبة ومشروطة يفرضها المحتوى القيم للكتاب. ومهما بدت هذه النقطة جذابة، فإني أعلق متابعة الحديث عنها لتأملها لاحقا. وما يهمني هنا، هو مشاركة جمالية الفسيفساء التي أبدعها المؤلف حاملا قلمه بين أنامله، وغالبا ما تغيب عن البعض منا. هذه الزخرفة هي عبارة عن إهداء كَتبه صانع المحتوى الثقافي (المؤلف) بخط اليد إلى معجبيه. وبصيغة أكثر تلاؤما وانسجاما مع الحدث، يحسن القول: القارئ المعجب أو المتلقي المعجب.
وحتى يقترب هذا الحكي من ذهن القارئ، لابد من سرد عناصر الزخرفة، كما يدونها سجل ذاكرتنا: كلمات الإهداء، واسم المتلقي القارئ، وتوقيع الكاتب، وتاريخ الإهداء، وأحيانا اسم الكاتب. هذه العناصر مجتمعة تشكل لوحة فنية أصيلة، ذات عمق إنساني وحضاري. ولو استحضر كل منا ما كُتب له في الصفحة الأولى أو الثانية في كتاب وُقِّع له، لاستشعر وزن وقيمة هذه الجمال الكامن في هذه اللوحة.
وفي الحق، ألا ترون معي أن الإهداء المكتوب بخط اليد هو دعوة للقراءة؟ ألا ترون معي أنه دعوة للأمل وللتفاؤل؟ ألا ترون معي أنه بناء لذواتنا وتعزيز لصحتنا النفسية؟ ألا ترون معي أنه دعوة للاستكشاف والبحث عن مكامن الجمال؟ ألا ترون معي أنه تاريخ يوثق للحدث: حدث الاحتفاء بالكتاب/الكاتب؟ وأكثر من هذا، ألا يشكل هذا الحدث، مادة للتاريخ مفادها "هذا هو خط الكاتب على الورق؟"؛ فتظل بالتالي تلك الورقة الأولى من الكتاب أو الثانية حاملة ذكرى عميقة، خاصة إذا كان المؤلف مفكرا أو أديبا، يسهم من خلال إنتاجاته الثقافية في التنمية البشرية وصناعة المستقبل.
لتوضيح الأمر، أسجل فيما يلي، كلمات بعض الإهداءات، كتبها باحثون وأدباء نوَّروا فكرنا وأحاسيسنا، ومنها أذكر المقتطفات التالية:
’’ من أجل هموم ثقافية مشتركة‘‘؛
’’هذا أفق معرفي وجمالي بيننا‘‘؛
’’كل شيء يبدأ بحلم‘‘؛
’’مع الود والتقدير‘‘؛
’’مع تمنياتي لك بالتوفيق‘‘.
وقبل أن تصل هذه الإهداءات بين يدي المتلقي، فإن هذا الأخير يكون جالسا منصتا منتظرا على أحر من الجمر، لقاء الكاتب ليلقي عليه التحية، وربما ليشكره على جهوده الإنسانية، وفي هذا كله نشهد جواهر التربية على الجمال تتلألأ وتطوف بالمكان الذي غالبا ما يكون خزانة، أو مكتبة، أو مركزا ثقافيا،
أو مقهى ثقافي.
ويتم توقيع الكتاب، فيسعد كل من الأديب والمتلقي، وتؤخذ صورا للذكرى، يشاركها هذا الأخير في منصات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، الإنستغرام، ...) وأحيانا يصنع من هذه الصور شريطا قصيرا ينشره في القناة الخاصة به "اليوتيوب".
ولنرجع معا إلى اللوحة التي تهمنا أكثر في هذا المشهد. إن كلمات الإهداء لها الكثير من التأثير الإيجابي على المتلقي. فعندما يشرك الكاتب الشخص الجالس بجانبه والحامل للكتاب الموجه للتوقيع، يكون قد دعاه إلى الاعتناء بمحتوى الكتاب. وبلغة أخرى، يكون قد دعاه إلى القراءة. وهنا، أكاد أرى التزاما وعقدا بين طرفين: الكتاب مولود المؤلف، والمتلقي الذي سيقرأ الكتاب المحتفى به.
ولا يهمنا هنا متى سيُقرأ الكتاب، فعاجلا أم آجلا ستنجز عملية القراءة. ذلك لأن العقد الافتراضي، له من الجاذبية ما يجعل المتلقي القارئ لا يخل بالاتفاق. وهنا أقول بين قوسين: إن نجاح هذا الاتفاق يرجع بالأساس إلى مدى قدرة الكاتب في جذب المتلقي وجعله يقرأ ثم ينغمس وينسجم مع مادة الكتاب.
وهنا أرغب التسطير على كلمتي بيننا ومشتركة، الواردتين في أمثلة الإهداء أعلاه. فعندما تلمحها عيني المتلقي، تتفاعل بدواخله أشياء غريبة وجميلة، فيسعد وينتشي، لأمر هذه الشراكة الافتراضية، بينه وبين الكاتب. ثم إنه ينتشي لكونها قد رفعت معنوياته النفسية. وهو ينتشي لأن كاتبا مرموقا قد وقّع الكتاب الذي اختار قراءته. وكلنا نعرف حجم فرحتنا عند لقائنا بكاتب!
إلى هذا، فالفسيفساء ما تزال تجود بنعم التفاؤل والأمل والصبر على "القارئ"، وأضع المفردة بين مزدوجتين لتمييزها عن القارئ الكائن خارج حلقة الإهداء المكتوب بخط اليد. ولدعم شرعية هذا الكلام، لنرجع معا، ولنقلب صفحات الإهداء المكتوبة بمداد المؤلف؛ فغالبا سنجدها تقترب من صيغ الأمثلة التي اخترتها في هذا المقال.
وفي رأيي، إني أجدها بلسما للحزن والتعب وإصرارا على تحقيق الحلم وعدم اليأس: ’’كل شيء يبدأ بحلم‘‘ أو ’’ تمنياتي لك بالتوفيق‘‘.
وقد يحدث أن يهدي كاتب إلى طالب منتوجه الثقافي بالمجان، وقد يحدث أن تساعد بعض المؤسسات هذا الطالب بمنحه كتبا بنفس الصيغة. وتشكل كلتا الحالتين بادرة طيبة وجميلة تسعد الطالب وتبهجه، ذلك لأن أصعب ما يعترض طريق الباحث هو غياب المصادر والأسناد الداعمة للأفكار التي يتضمنها بحثه العلمي.
ويهمني هنا، تصوير المشهد لأهميته العظيمة ولتأثيره على نفسية الطالب وكذا على ذاكرته. ويمكنني القول بأن هذه اللقاءات الثقافية تفتح مسام الذاكرة، لتستقبل بذلك الصور والكلام؛ فيترسخ الحدث. ومع مرور الوقت، يصبح الحدث نوستالجيا، يستحضر الطالب خلالها كل الكلام وكل الأصوات وكل الصور.
وهكذا تنتشي الذاكرة بوجود مسرح افتراضي وواقعي في ذات الوقت، لأنها كانت شاهدة على نقل المشاهد من صيغتها السمعية البصرية إلى صيغة تحيا فوق ركح مسرح الذاكرة أو في عمق الذاكرة.
وإني لأسمع عزف هذه اللقاءات الثقافية يغذي الحواس، وإني أرى في عمقها درسا للإنسانية وإني أرى في عمقها دعوة إلى القراءة. كما إني أحس في عمقها اهتماما بالصحة النفسية وفي عمقها أيضا تربية على الجمال.
Post A Comment: