مِن أَخطرِ الأمراضِ الَّتي تُواجِهُ الإنسانَ آفَةُ التَّسوِيفِ | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف
![]() |
مِن أَخطرِ الأمراضِ الَّتي تُواجِهُ الإنسانَ آفَةُ التَّسوِيفِ | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف |
مِن أَخطرِ الأمراضِ الَّتي تُواجِهُ الإنسانَ في عَملِهِ وحَياتِهِ ، هو آفَةُ التَّسوِيفِ.
والتَّسويفُ هو الممَاطَلةُ، هو مَرضُ تَأجيلِ الأَعمالِ، وتَأجيلِ أَداءِ الواجباتِ والحقوقِ.
والتأخير والمماطلة في إنجاز الأعمال وعدًا أو وعيدًا.
وهو أُسلوبٌ يتعلَّقُ بالعَملِ والحَركةِ والإنتاجِ والسَّعيِ وعَكسُهُ المبادرةُ والمسارعةُ والإتمامُ للمُهمَّاتِ وإنجَازُهَا.
والتَّسويفُ هو من أَلد أعداءِ الإنسانِ، فهو هَادمٌ للعُمُرِ بلا فائدةٍ، مُضيِّعٌ للوقتِ الثَّمينِ بلا منفعةٍ، ومُفوِّتٌ لمصالحِ الإنسانِ بلا ثَمرةٍ.
التسويفُ، هو المسؤولُ الأولُ عن الإِخفاقاتِ، والقُصُورِ عَن المعَالِي والإِنجَازاتِ .
وأَخطرِ أَنواعِ التَّسويفِ وأَعظَمِهِ، فهُو التَّسويفُ في عَلاقةِ الإنسانِ مَعَ ربِّهِ وخالِقِه، فيؤجِّلُ أوامِرهُ التي أَمَرَه بهَا، فتَفتُرُ هِمَّتُهُ ويَظلُّ يُؤجِّلُ في الطَّاعاتِ، بَل رُبَّمَا في الفَرائِضِ حتَّى يُضيِّعُهَا، فإذَا مَا هَمَّ العبدُ بأداءِ الصلاةِ وَسوَسَ لَه الشيطانُ الرجيمُ بأنْ يُؤجِّلُهَا قَليلًا حتَّى يَنتهِي ممَّا هو فيهِ ولا يَزالُ الشيطانُ به حتى يَقطَعَ صِلتَهُ بربِّهِ.
إنَّ المُطَّلِعَ على كتابِ اللهِ تعَالى يُدرِكُ سَريعاً كَثرةَ الآياتِ التي تَحُثُّ على المسارعةِ إلى الأعمالِ الصالحةِ وعدمِ تَأجِيلِهَا أو تَسوِيفِهَا .
قالَ تعَالى:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[آل عمران: 133]
وقالَ تعَالَى:
﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
[الحديد: 21]
كمَا أنَّه سَيَلْحَظُ التحذيرَ المتكَرِّرَ مِن عَاقبةِ التَّسويفِ والتَّأجيلِ في وقتٍ لا يَنفعُ فيهِ النَّدمُ .
قالَ تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
[المؤمنون: 99، 100]
وقالَ جل شأنُه:
﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾
[المنافقون: 10]
والرسول صلى الله عليه وسلم حذر مِنَ التَّسويفِ وأمرنا بالمبَادرةِ إلى الخَيراتِ والمسارعةِ إلى الطاعاتِ والأَعمالِ الصالحةِ قبلَ تَعذُّرِهَا والاشتغالِ عَنهَا بما يَحدثُ للإنسانِ في قَادمِ أيَّامهِ.
قال صلى اللهُ عليه وسلم:
بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا .
رواهُ مُسلمٌ
وقالَ صلى اللهُ عليه وسلم :
بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ .
رواه مسلمٌ
ومِنَ التسويفِ :
التسويفُ في ردِّ المظالمِ والحقوقِ إلى الخلقِ .
يقولُ الرسول صلى الله عليه وسلم :
مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ... الحديث"
رواه البخاريُّ
وأَفضلُ طَريقةٍ لمحاربةِ التَّسويفِ هو أَن تَتذكَّرَ مَحدُودِيَّةَ عُمرِكَ، وأنك لا تَدرِي متى سَتمُوتُ؟
وأنَّ الفلاحَ في الآخرةِ ونَيلَ التَّقدمِ والنجاحِ في الدنيا لَن تَحوزَهُ إلاَّ بأداءِ الأعمالِ في أوقَاتِهَا والجدِّ والاجتهادِ والنشاطِ واقتناصِ الفُرصِ وأَن تَهتَمَّ بمصاحبةِ المُجِدِّينَ في حياتِهِم، وأَن تَنظُر في أحوالِ الناجحينَ والعظماءِ؛ فإنهم لَم يَصلِوا إلى مَا وَصلُوا إليه إلاَّ بالنشاطِ والفَاعليةِ والجدِّ والعملِ الدائمِ وإنجازِ الأعمالِ في أوقَاتِهَا.
ومِمَّا يُؤثرُ عَن سيدِنا عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي اللهُ عنه:
مِنَ القُوةِ ألاَّ تُؤخِّرَ عملَ اليومِ إلى الغَدِ .
كان الإمام البخاري رحمه الله يذهب للنوم فتُعرَض له الخاطرة من العلم، فيقوم يكتبها ثم يرجع ينام، ربما فعل هذا في ليلة بضع عشرة مرةً؛ يقوم فيوقد السراج، فيكتب ثم ينام، إنه لا يؤجل هذه الخاطرة الثمينة للغد؛ لعله إذا جاء الغد وما كتبها لا يجدها.
وكان ابن الجوزي رحمه الله تُعرَض له خواطرُ من العلم، فلا يكتبها ويمني نفسه أن ربما يتذكرها ويكتبها فيما بعد، لكنه وجد في هذا خسارةً عظيمةً، فعزم على تقييد كل خاطرة تجول في عقله في كتابٍ له دون تأجيل أو تسويف .
قال رحمه الله:
لما كانت الخواطر تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب - كان من أَوْلَى الأمور حفظ ما يخطر؛ لكي لا يُنسى، وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته فيذهب، فأتأسف عليه!
فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر .
ولهذا نجد أنن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان إلى العبد طول الأمل، والأماني الخداعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة، واغترار بزينة الحياة الدنيا.
يُروى عن الحسن البصري رحمه الله قال:
ما أطال عبدٌ الأملَ إلا أساء العمل.
وعلاج التسويفِ يكمن فى :
1- تربية النَّفس على الجديَّة والصرامة في تَنفيذ الأعمال وتحقيق الأحلام بعزيمة وهمَّة ونشاط.
2- الابتعاد عن الرفقة المعروفة بالتسويف، "والصاحب ساحِب"، و"كل قرين بالمقارن يقتدي".
3- تأمُّلُ خطاب القرآن للمؤمنين، وسيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم التي تقوم على الجدِّيَّة وعدم الكسل والتخاذل.
4- النظر في سيرة السلَف الصالح، وكيف كانوا ينأَون بأنفسهم عن هذه الخصلة الذميمة.
5- تذكُّر الموت والوقوف بين يدي الله سبحانه ؛ قال صلى الله عليه وسلم :
أكثِروا ذِكرَ هادم اللذَّات .
يعني : الموت .
أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي والنسائي
ولهذا دائما ً نقول دعِ الأمانيَّ، واقطع التسويف، ولا تقل: غدًا أتوب، بل تُبِ الآنَ، ولا تَدَعِ الذنوب تتراكم على قلبك، فيثقُلَ حملك، ويضعف إيمانك، إن كل ذنب تؤجل التوبة منه عبءٌ عليك .
ابدأ الآن واقطع حبال التسويف، ضَعْ قدمك على بداية الطريق وستجد التوفيق بإذن الله تعالى .
يقولون:
رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة .
عليك البداية الصادقة، وعلى الله التمام، أما إذا ظللت تسوِّف وتؤجل، فسوف يضيع الوقت، وينقضي العمر، ولا تزال في مكانك، فلا تقل غدًا أتوب، أو غدًا أجود؛ فإنه إذا مضى زمان لا يعود.
يقول الحسن البصري رحمه :
إياك والتسويف؛ فإنك بيومك، ولست بغدِكَ، فإن يكن غدٌ لك، فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد، فلن تندم على ما فرطت في اليوم .
ولهذا يقولون:
التسويف رؤوس أموال المفاليس .
ابدأ في إعادة ترتيب أولوياتك وجدولة حياتك، واجعل لكل عمل وقت بداية ووقت نهاية، ولا تترك أعمالك مفتوحة الوقت، فمعرفة أن لهذا العمل نهاية يكون حافزًا قويًّا لتنجزه في أقرب وقت.
حدد هدفك، وانطلق نحوه بعزيمة وإصرار، واقطع حبال التسويف والتأجيل؛ فإنها تضيِّع أحلامك وأهدافك.
حاسب نفسك في نهاية كل يوم، واعرف أسباب التقصير والخلل، وتعلم من أخطاء يومك ليكون الغد مشرقًا.
وأختم بقول الشاع ابن المعتز:
جدَّ الزمان وأنت تلعب
العمر في لا شيء يذهب
كم قد تقول غدًا أتوب
غدًا غدًا والموت أقرب
Post A Comment: