(أولى لحظات هذا الصباح)
بقلم الأديبة د. جميلة الكجك
صوت نفير الحرب أيقظ حاسة السمع عندها، تململت في سريرها ، تحسست فراشها، وأجالت بصرها في غرفتها. ثوان قليلة ثم قامت تستطلع الأمر. إنها الحقيقة وليست منامًا. تذكّرت أنهم ليلة أمس أنذروا الناس بمنع التجوال، لكنها لم تكن تتصور أن هذا الصوت المنكر هو الذي سيبدأ به نهارها، شعرت بانقباض في صدرها إذ تذكرت ما كان يتبع هذا الصوت من ويلات الحروب، كانت وقتها في العاشرة من عمرها، أخذت الذكريات تتوارد في مخيلتها كأفلام رعب. استعاذت بالله من الشيطان الرجيم وقامت إلى النافذة علّ شعاع الشمس يخترق عينيها وصولا إلى قلبها فيدفئه ويطمئنه أن الدنيا لازالت بخير. أزاحت الستارة السميكة - إذ أنها تحب النوم في الظلام الدامس - لكن الشمس ذاتها كانت تخفي وجهها خلف قناع، قناع أبيض سميك لم يدع شعاعًا واحدًا يمر عبره. قناع! كيف وردت هذه الكلمة في خاطرها، ربما لأن الجميع يرددها، وربما لأنها حاولت أن ترتديه بالأمس لكنها لم تستطع التنفس وهو يحيط بفمها وأنفها. قلّبت نظرها في السماء، الشمس تأبى الشروق، أشعتها مُحاصرة خلف ذاك القناع. الدقائق بل الثواني تمر ببطء اعتادته وقت مرضها حيث كانت تنظر إلى الساعة فإذا بعقارب ثوانيها ثابت لا يتحرك، لحظتها شعرت بالفزع، فهي لا تريد أن تتذكر تلك الأوقات الرهيبة، لا تريد أن تسترد وقتا كان ثقيلًا ثقيلا.
نعم هي لا تريد أن تسترد حالة كان الوقت فيها كأنما هو جبل يجثم على صدرها وهي تعلم أن عمرها ما هو إلا وقت محدود وأنه سينتهي حتمًا بمضي الزمن قدمًا، لكنها تريده أن يمر بسلام. لا تريد أن تشعر وكأنها تحمله ولا تمرّ عبره إلى دار السلام حيث رب رحيم.
ساعة كاملة تامة وهي متسمّرة أمام النافذة والشمس لا تريد الظهور. تُرى هل الشمس مثلنا خائفة من هذا الفيروس "كورونا". قناع الشمس يزداد سماكة حتى أن الأشياء على بعد أمتار قليلة لم تعد تُرَى، بيوت الجيران وحدائق منازلهم اختفت خلف هذا القناع ذاته. وما من صوت يخترق هذا الصمت الرهيب غير صوت نفير الحرب يُطلق كل نصف ساعة.
شعرت بالبرد الشديد وقشعريرة سرت حتى أعمق خلاياها. وتخيّلت أنها تعوم في بحر تجمّدت مياهه وأنها تكاد تغرق فيه. احتضنت صدرها بكلتا يديها فهذا القلب الساكن فيه يطلب الأمان ولن يجده إلا في حضن حبيب، والأحبة غائبون كل خلف جدران منزله. أو في مكان بعيد بعيد.
لم تعد كل وسائل "التواصل الإجتماعي" تجدي نفعًا، فلحظة احتضان واحدة من أحبّتها تساوي شبكات التواصل كلها. في هذه اللحظة تذكرت أن اليوم هو يوم "عيد الأم" وأن هذا اليوم بالذات كان يوم يمتلئ به المنزل بالأبناء والأحفاد تحتفل بهم الأشياء فيه كما يحتفلون هم بعيد أمّهم. صخب وضحك وشموع وأحضان وقبلات، حتى أن الأشياء ذاتها كانت تراقص أولئك الأحفاد كما يراقصونها. لحظتها همست من أعماق قلبها كل عام والناس كل الناس بألف خير.
Post A Comment: