"أرض الطيبين"
قصة قصيرة بقلم الكاتب يحيى أبو نور



أرض الطيبة... منبت الحب... منبت الشهامة... منبت الشجرة التي لا تلفظ أوراقها ... 

   جلس بصعوبة وهو يتكئ تارة على فخذه الأيسر وأخرى على عصاه.. أسند ظهره الى شجرة صفصاف كبيرة تناثر ظلها على المكان.. كانت الوحيدة في أرض أضحت قاحلة بعد أن عمرت طويلا.. سافر ببصره الى الأفق يتأمل في صمت رهيب رحيل شمس شتاء قارس تتأهب للمغيب بين فج جبلين شامخين يشهدان رحلة كفاحه المريرة.. لقد أرخت السنون عضلاته، وأذبلت تقلبات الزمان عروقه الجافة كما أشجار الزيتون التي تحيط بالبيت العتيق, حتى كادت تطفو على جلد أطرافه.. أحس بتعب شديد حتى كأن الأرض كانت تدور من حوله.. حاول ان يستعيد قواه المنهارة بعد عناء السفر.. خطا خطوة أو خطوات وهو يلهث .. لكنه لم يقو على المشي، فرمى بكل ثقله بجسده المهترئ مستلقيا على كومة من التبن، كما كان يفعل بالأمس مداعبا ابنه نعمان على بساط العشب الأخضر وسط سنابل القمح ..

  أغمض عينيه.. ثم استرسل يعيد شريط ذكرياته بهذه " الأرض الطيبة " أو "أرض الطيبين" كما يحلو له أن يسميها.. كانت أرضا خالية تمتد على مسافة تناهز العشرين هكتارا حينما ورثها عن أبيه، مناصفة مع شقيقته، وهو لم يبلغ بعد الحلم.. فأصبحت في بضع سنين وكأنها روضة من رياض الجنة.. كانت أشجار اللوز والزيتون والتين والمشمش تصطف في انتظام تزين الحقول المجاورة لبيت العائلة الذي بناه جده بالطين والحجر قبل استشهاده في إحدى المعارك ضد المستعمر.. كانت مياه العيون والجداول تتدفق, فيما مضى, عذبة رقراقة على جنبات السواقي التي لا تبعد كثيرا عن البيت، فتحدث تلك النغمات التي لم يفارق صداها مسمعه رغم كل هذه السنين.. 

   لا زال يذكر ذات خريف وهو ينثر البذور عندما فاجأه صوت عذب لفتاة لم تتجاوز الثالثة عشرة من عمرها حينها وهي تقف في استحياء تمد يدها إليه قائلة :  
- هذا الطعام أرسلته أمي..  

   كانت زينب إحدى جميلات القرية.. وستكون سنده ورفيقته في السراء والضراء.. وكأنها, حتى بعد الفراق, بعد وعكة صحية ألمت بها ألزمتها الفراش لشهور عديدة, لازالت تحوم, كالفراشة, بخفتها ورشاقتها المعهودتين, حول كل شبر مما تبقى من " أرض الطيبين"، تتفقد أحواله، كما كانت تفعل بالأمس كلما غط في نومه بعد يوم متعب.. 

   فتًح عينيه الذابلتين.. ابتسم ابتسامة خفيفة.. ثم أخرج بصعوبة فائقة يده اليمنى من تحت برنسه البني وبسطها إلى أعلى وكأنه يلمس طيفها الذي لم يفارقه رغم سنوات الفراق الطوال.. كانت تقترب منه رويدا رويدا تتسلل حشودا بيضاء كثلج هذا الشتاء فوق قمم الجبال.. سمعها وهي تناديه وابتسامة عريضة قد ارتسمت على محياها : حان الآوان ... آن الأوان ...

   كان وقع تلك الكلمات التي ألقت بها زوجة ابنه نعمان وهي تشتكيه بالأمس لزوجها على قلبه كما السهام على جسد طائر جريح.. لقد ضجر من شجارها الذي لا ينتهي.. وأصبحت الحياة بمنزل ابنه لا تطاق.. لم يغمض له جفنا الليل كله.. مع بزوغ فجر هذا اليوم, قام من فراشه في هدوء تام. توضأ. صلى بعض الركعات وختمها بالصبح... وقبل أن يغادر الفيلا ودع حفيده صلاح الذي كان, كما عند كل جلسة شروق, يتلو القرآن ويدعو لوالديه اللذين لقيا حتفهما في حادثة سير الصيف الماضي... ضمه الى صدره ويداه ترتجفان.. أهداه سبحة ومده بأوراق نقدية وظرف مغلق ... ثم خرج, كالمودع, في شوق الى عناق أرضه لعلها تطفئ كما بالأمس لهيبا يتأجج في أعماقه..



Share To: