المهاترات الفكرية و مواقع التواصل الإجتماعي.. 
بقلم الكاتب و المفكر أ. رامي محمد 


قرأت عبارة عظيمة لأحد العارفين من القرن الخامس الهجري وهي جديرة بالتأمل، يقول فيها : 

"ولقد شاهدت خلقًا لا يعرفون معنى الحياة، منهم من أغناه الله عن التكسّب لكثرةِ ماله، فظلّ يقعد في السوق أكثر النهار لينظر إلى الناس، ومنهم من يقطع عمره في الحديث عن السلاطين والغلاء والرخص، فعلمت أن الله لم يُطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية، إلا من وفقه وألهمه واصطفاه"

أسوأ ما يمكن أن يحدث؛ أن تكتشف بعد فترة من الزمن مع مواقع التواصل، أن سنوات العمر قد ضاعت في المهاترات الفكرية والقضايا الصغيرة، وترقب المغاياظات التي يتبادلها الـ -influencer- زعمو. ومطاردة التعليقات البليدة، والتحديق في سباق التريندات! 

لن أتحدث عن الأثر السيء الذي أحدثته الـ social média وكونها صنعت منا أشخاصًا سطحيين، لأنها تصيغ عقولنا على نمط -التفكير الأفقي- الذي لا يُبصر سوى الغلاف والقشرة الخارجية للأفكار، ولا تساعدنا على بناء تصورات عميقة وشاملة عن المعتقدات والأفكار والحياة، حيث أننا غادرنا معامل الإنتاج إلى رفوف التسوق!

فنحن هنا نبحث عن الملخّص والفكرة التي لا يكفي لنقاشها ألف صفحةٍ في منشور لا يتجاوز عدد حروفه مائة! وبالتالي مع هذا الإدمان، لم نعد نحتمل مطالعة كتاب، أو التروي للارتواء والتأمل في فكرة، أو سماع محاضرة أكاديمية كاملة، أو إقامة حديث دافىء وحقيقي في الواقع. لأن ملكة البناء العلمي صارت متعطّلة. والحواس والمشاعر الحقيقية تبلدت أمام الشاشات الصامتة!

نمط حياتنا بذاته اصطبغ بروح السرعة، وتعرض لغزو جائح من اللهث والركض في الاتصال والتواصل السريع وطريقة تلقينا للمعرفة، وصار كل شيء حولنا يعدو ويسرع، حتى وصل لدرجة، لا تلائم إيقاع الحياة الذي تحتاجه أرواحنا!

لن أتحدث عن كوننا مع هواتفنا اللصيقة صرنا ننفصل بشكل تدريجي عن روح الحياة الحقيقية والعمل ومعايشة التجارب الحقيقية الحية، حيث صرنا نعيش في وهم أننا نعيش، باعتبار أن الحالة الطبيعية لإنسان العصر صارت -الفُرجة- والمشاهدة والتعليق!

مع وسائل التواصل؛ نستهلك طاقتنا الذهنية الثمينة، في جزئيات من الحياة لا تهمنا، نتتبع أخبار وأحوال أشخاص لا يعنينا أمرهم، نعيش مشكلاتٍ لسنا طرفًًا فيها، نقرأ فتاوى مضللة، نؤذي عقولنا بأفكار رديئة، وما هذا سوى تعذيب لجهازنا العصبي وحيلة مضللة للنفس، لنتنفس خارج تعقيدات الحياة ومهامها المفروضة علينا!

ما الذي سيهمك سيدي إن كان فلانًا المنتحر في الجنة أم في النار؟ أو أن مشهورًا انفصل عن زوجته؟ أو أن فلانةً نزعت حجاباها أو حتى تعرت في شارع؟ أو أن شخصًا ألحد أو آخر صار من القوم المؤمنين؟ ماذا سيضيف لوجودك رأي فلان في الأمر؟ وما الذي ستجنيه من تدجين أشخاص وتبني مواقفهم والدفاع عنها سوى فراغ حاد داخل النفس؟

ما الذي سيحفظ صفاء نفسك بعد أن كنت تتقافز لتحصّل المعرفة الشريفة وتنعم بالسلام النفسي وتشح بوقتك أن يهدر في الفراغ، وقد حولت حياتك وزهو شبابك إلى لغو فارغ ومحاولات إقناع مجموعة من المجاهيل في مكانٍ خطأ بأفكارك العظيمة؟ بل من الذي أوهمك أصلًا أن سيكلوچية الجمهور في مكان كهذا مهيأة بالأساس لتغيّر قناعتها من منشور مكتوب؟

إن ثقافة -الإعراض- يا صديقي من أعظم صفات النُبل والعظمة في الإنسان، لأنه دائمًا يبقى راكبًا حياته وفق إرادته لا مركوبًا فيها، ولأنه يعي جيدًا أنه ليس كل شيء يستحق أن يُلتفت إليه، أو يُتحدث عنه! 

لا تقل لي لا بد من مجاراة الواقع وأفهمه لأنني أعيشه، فليذهب الواقع إلى الجحيم؛ طالما أن هذا على حساب اتزانك النفسي وسلامك الداخلي وحياتك المستقرة!

فكلما ارتقى الإنسان -انتقى معاركه- وصرف نفسه عن الانشغال بقيل وقال ومتابعة الحكايا والأحداث وشؤون الناس ولو بمجرد التفكير في أمور كهذه بينه وبين نفسه، بل يصبح ذلك أثقل شيء عليه!

فالإنسان الممتلىء منشغل بحاله، منكفىء على همّه، يسعى إلى استجماع قلبه، يشحّ بوقته، ويعمّر عالمه الداخلي بالنور والسلام. وكل ما سوى ذلك والله بطالة وحط مرتبة!



Share To: