في الباص الأحمر رقم 176 والذي ينقل ركابه من شبرا إلى ميدان العتبة وبالعكس، حيث كان بالإمكان يومها أن تجد مكانـــًا لتجلس فيه وأعني زمن السبعينات الجميل، قبل أن يصبح ذات الباص مجرد علبة ترحيلات مكتظة. يومها جلست فتاة ما ووقف قبالتها شاب ما، كانا يناظران بعضهما، وكأن بقية الركاب تماثيل شمعية، يتناظران وقد تجمد كل شيء من حولهم حتى الزمن. الفتاة ذات العيون الخُضر والشعر الطويل الناعم والجيبا القصيرة، والفتى بسالفه العريض وقميصه المشجر ذو الياقات المتدلية يتبادلان الهمس والتباسم الجميلان. كان الباص يواصل سيره والتوقف في محطاته المحفوظة لنا: محطة فيكتوريا( نصر الإسلام حالياً)، الجراج، الدوران، مسرة، تهتز وقفة الركاب كلما تحرك الباص وكلما توقف، والشاب يمنع جسده من السقوط بيده اليمنى على الكرسي الذي أمامه ويعلق يده اليسرى في العامود الحديدي المتدلي من سقف الباص والمخصص ليتعلق الركاب الواقفون به، الشاب كان يترك يده المعلقة لتحُط هكذا ببطء على شعر الفتاة كماء يسيل في جدول من بهاء، يمسد شعرها، وهي في جلستها تعلق على وجهه عيونها الحالمة وكأنها في معبد. كانت حركته البسيطة تلك عابرة وبديهية وكأنه لا يقصد أن يكتفي من فيض الحب الذي لا يستطيع معه صبرًا، محاولًا  ألّا يلفت إليه أنظار ذلك الطفل الفاغر فاهه أمام هذا الحب وهذا الفيض من النور. ربما كان عبد الحليم لم يغنِ قارئة الفنجان بعد، ولم يكنْ محمود الخطيب قد سجل أجمل أهدافه في مرمى الجزائر بعد، ولم يكتب الطفل ناصر رباح حينها أي قصيدة بعد، ولكن ذلك الشاب وتلك الفتاة صنعــا يومها جمالاً استثنائيًا، وشعراً خالداً، وموسيقى تعزف لأغنية لاتنسى في ذاكرة من ماء.



Share To: