..........................................................................................................
إن ارتياد عالم الشعر في عصرنا الحديث ليس بالأمر الهين، وساحتنا الأدبية تطل علينا بالكثير والكثير من الوجوه المجددة أو الباحثة عن التجديد، بحيث يصبح الصوت الشعري المميز منها عملة نادرة الوجود، تنفض ما حولها من أشباه المجيدين وأنصاف المبدعين. 
وأحسب الشاعرة والإعلامية الجزائرية الأستاذة " رحمة بن مدربل " تنتمي لهذا الفصيل من الشعراء الجدد ، الذين يتميزون بالطابع الخاص لقصائدهم النثرية، الباحثين عن موطيء قدم يترك أثرا ً مغايرا ً في الشعر العربي الحديث الذي ـ كما قلت ـ تفيض ساحته بالأصوات التقليدية والتي لم تتخلص من القوالب الجامدة للقصيدة النثرية في أحدث أشكالها وأنماطها. 


" همس بين غيمتين " ديوان " رحمة " الأول، وأحسبه لن يكون الأخير، فهي شاعرة تحمل بداخلها طاقة متفجرة، يعذبها قيد التنكر لقدرها، واللامبالاة بإبداعها، وأخيرا ً طمس أحلامها الوردية بممحاة البيروقراطية والوصولية .. والمحاباة !
تلك المقدمة كان لابد من إيضاحها عند استهلالنا للحديث عن هذا الهمس بين غيميتن للشاعرة المبدعة " رحمة بن مدربل " ، فعنوان الديوان لا يوحي كثيرا ً بالمضمون الذي يحتويه بين الصفحات ، وإنما هو يستجدي الانتباه لهذا الصوت الشاعر، الباحث عن ذاته، المحلق بأحلامه بين غيوم يستدرجنا لمحاولة تعريفها وتحديدها، متسائلا ً إن كان صداه في القصائد قد أصاب شغاف القلوب التي مازالت تنبض في عالم اكتسى بالموات والشحوب والضجر !
ليست القصائد من وجهة نظري همسا ً خافتا ً، وإنما هي ضجيج يغشاه الصمت من كل اتجاه، وإن كانت الشاعرة تبحث عن هذه الصورة الحالمة التي تتناسب ورقة الكلمات الموسدة في تتابع صورها الشعرية فأراها قد صاحبت تلك الصورة بكثير من الصخب في المعاني، وأحيانا ً في الإيقاع . ولنتناول بعضا ً من القصائد التي تعبر عن ذلك ...
في قصيدتها " همس بعد منتصف الشوق بتوقيت الحيرة " 
إن العنوان في حد ذاته مبعث للإثارة، واستدعاء التأمل، تضفير للصورة وتعميق للمعنى بدءا ً من لحظات الاستهلال الأولى، وحين يتدفق الشعر نراها ـ أي الشاعرة ـ تتصاعد بالإيقاع و الموسيقى في الكلمات و الصور
نصفي " هنالك "
في " الهنالك " أنت 
كلي " هنا " 
في " الهنا " أنت 
أي تقافز للكلمات على الأوتار، وأي موسيقى مرهفة في قصيدة نثرية، ليست كتلك التي اعتدناها في زمن الحداثة و التجريب. إن امتزاج الصورة والمعنى والإيقاع في تضفير جميل ومنمق هو من أهم ما يميز قصائد " رحمة " في ديوانها الهامس / الصاخب، وهو الذي أحيانا ً تصرح به ولا تخفيه كما في قصيدتها " نمارس البكاء " :
أمزج دمعي بالماء 
و أشرب حتى العطش 
الملح يملأ جراحي ...
أمارس البكاء 
أطهر قلب الوجود الذي انعدم
أحاول إغراقه في الصراخ 
ربما صارت أذناه تسمعاني 
ربما .. ربما !
هاهنا جوهر الرسالة التي تحتويها القصائد، ذلك التناقض المريع بين حلم وواقع، بين الوجود والعدم، وتلك المحاولة اللاهثة لإثارة الضجيج والصخب، لعل أحدا ً ما يلتفت .. أو ينتبه.
وفي هذا الديوان يتكاثر ذكر " الغيمة " كمفردة شعرية ذات دلالة، فتارة نرى الهمس بين "غيمتين"  وتارة نرى قلبي / غيمة كما تقول الشاعرة، وأخرى تخبيء " رحمة " أشواقها بين غيمتين، فأي حديث للغيوم هذا الذي تقصده، إن تلك " الأنا " التي تحتبس أحلامها و ترتحل مع الريح تبحث في الشواطيء عن مرفأ للحب المفقود، عن عاشق لا تكاد تقترب من الوصول إليه حتى يذوب كالملح في الماء، عن وطن يوقد شموع الفرح، و يئد الأحزان ، تلك " الأنا " التي تريد أن تنهمر شعرا ً وعشقا ً و تمردا ً على الواقع هي من تتحدث لنا بين السطور والأبيات والكلمات، هي من تناشد الوطن :
خذ طفولة قلبي 
خذ الدمع و الأحضان 
خذ يدي .. خذ ذراعي 
خذ الحزن الذي من طباعي 
فأنا أحبك يا وطني 
يا قبرنا الجماعي !
هذه الصورة الدرامية، التي تمثل مرثية للذات، وتجعل من الوطن قبرا ً، ليس لها وحدها وإنما للمجموع، ولكل الباحثين كما ذكرت في مقدمتي عن " فرصة " لا تقتلها الانتهازية أوالتنكر للموهبة أو الإبداع تسري في القصائد و تتكرر، بشتى الصور حاملة الكثير من التداعيات و الإسقاطات أحيانا ً لتعبر عن واقع هزيل ليس كفؤا َ لأن تنطلق فيه الأبيات بكل طاقتها الكامنة ، وإنما يصبح أحيانا ً " سجنا للنص " كما تقول رحمة في عنوان إحدى قصائدها !!
إن حديث الغيمة التي لم تمطر هو الهاجس الذي يؤرق الشاعرة، فيجعلها كلما أرادت أن تبوح و تنهمر عاندها الواقع المرير، وجعل منها " زنديقة الشعر الذي لا يشبه الشعر " ، وجعل من قلبها " فندقا ً للفراغ " وجعل من قصيدتها " قصيدة فاسدة " !
إن التراكيب والصور التي استخدمتها "رحمة " تبرز بما لا يدع مجالا ً للشك قدرتها على التميز في ابتكار الصورة وملاءمتها للإيقاع الشعري، و هي التي جعلت من عناوين القصائد مفتاحا ً للكثير من الاستدعاء للانتباه كما نرى في " ممحاة اليأس " / " الاسم الذي يلاحق ظلي " /" سأقتل الليل في عينيك " و " نبوءة الملائكة ". هي شاعرة على قدر كبير من المهارة في التشكيل، تمتلك القدرة على التنويع في تضفير المعاني و استخدام الأضداد. 
وفي النهاية ، يجدر الإشارة إلى أن " رحمة بن مدربل " هي صوت لا يحاول أن يشيه أحدا ً ، لا تنزلق إلى المألوف و الدارج من تيارات الحداثة في قصيدة النثر، وإنما هي تحاول أن تكون " ذاتها " ، تتشبث بالمكان والزمان الذين تعيشهما بكل أفراحهما وأتراحهما، تثير صخبا ً يقاوم الركود ، و تخلق عالمها الذي تظلل سماءه غيمة تريد أن " تمطر شعرا ً " .  


طارق عبد الوهاب جادو 
بنها – مصر العربية 
 25 – 8 – 2020



Share To: