منذ رحيل جدي وأنا أستشعر ما معنى موت الأماكن وموت الأشياء وكيف تموت الحياة ونحن على قيدها؟
وعندما أفكر في الشخص الذي ألهمني لا أجد سواه ، متكئا بعصاه في ذاكرتي ، فكم يؤلمنا فراقك ياجدي ولكن إرادة الله فوق كل شي .
فسعة قلبك وطيبة نفسك ورحابة صدرك ووجهك البشوش وأمانتك كانت عنوان شخصك المهيب .هكذا كنت أستذكرك، فقد كنت جداً وأباً ورب أسرة مثالياً.
لقد كنت كبيراً وليس سناً بل قدراً ومقاماً وحكمة، وكنت شخصية مهيبة حتى في آخر أيام حياتك.
لطالما كانت هنالك اللحظة التي تستحضرها ذاكرتك في يومٍ من الأيام، كلٌّ منّا و له حكاية وبطل .. فكان جدي رحمة الله عليه هو بطلي في هذه الحكاية.. حين استحضرتني ذاكرتي بموقف قبل ستة سنوات حين بلغت من العمر خمسة عشر سنة، وحان الوقت للتقديم على الهوية الوطنية ، فكان جدي هو من رافقني إلى الأحوال المدنية ، ليتقدم وهو ماسكاً بيده عصاهُ وبيده الأخرى ماسكاً بيدي ليذهب إلى الموظفين هناك ويقول ''هذا ولدي الله الله فيه'' ، حنيني لهذه اللحظة كانت كالقنبلة الموقوتة انفجرت في أرجاء ذاكرتي، لتشكل لي في مخيلتي بأنه كان مشهداً مقدساً بالنسبة لي ولكني فقط لم أكن أعي ذلك!
ها أنا اليوم ياجدي سأذهب إلى موعدي الثاني في الأحوال المدنية لوحدي ، لكن لاتقلق ففي قلوب الأحفاد ، الأجداد لايموتون أبداً. طيفك، وروحك، وشخصيتك، وضحكتك، وحكايات الطريق كلها سآخذها معي، وهنا تأتي دور المخيلة لتعيد تجسيد هذه الأحداث، لأرى فيها السعادة التي يصعب عليّ رؤيتها في الواقع.
''هل بالإمكان معرفة آبائنا كما ينبغي قبل فوات الأوان"
هذا ماقاله أبي محمد الحرز في مقاله بعنوان فقدت أبي وعلى الكلام أن يلتقط المنجل.. أعتقد بأن الطريق للمعرفة غالباً مايكون شاقاً ففي بداية العمر عاطفة الأم تتغلب على الأب بالنسبة لنا كأبناء ونتجاهل القوة التي خلف ظهورنا التي تصنع شخصيتنا وتحدد مسار حياتنا وغالباً ماتترسخ هذه الفكرة، ولكننا لانعلم كيف لهذه القوة أن تستنزف صحة جسدها وراحتها لتمنحنا حياة مليئة بالرفاهية والرخاء بدون أي مقابل.. هل يعقل ؟
هل يوجد عطاء كهذا ! من هنا بدأت معرفتي بهذا الرجل، فمنذ الصغر أنا وإخوتي تتردد علينا كلمة لوصفك وهي العظيم، ضلت في أذهاننا جميعاً فنحن لم نعرف معنى العظمة إلا بمعرفتك يا أبي.
فأدركت لاحقاً بأنك أب عظيم من جد عظيم.
الأب هو وطن لا مساحة له في الأرض ولا في السماء، فهو قدوتي الأولى، وعلمني كيف أن أصمد أمام أمواج البحر الثائرة، وأعطاني ولا زال يعطيني بلا حدود، وجعلني أرفع رأسي إفتخاراً به وإن كان قلمي لايوفي حقك ، إلا أن مشاعري أكبر من أن أسطرها لك بالكتابة.
يا الله هو أبي
لاتدع الحياة تقف على بابه، عليك أن تكسر الأقفال، وترفع سقفه الواطئة، وتأتي بسمائك السابعة، وتظلله بأجنحة من ملائكتك.
يا لله أنت لاتفلت حبلي لأنك تعلم أن يدي المشبوكتين هي حياتي وأن حياتي هي أبي.
قل لي الآن - هل بالإمكان معرفة آبائنا كما ينبغي قبل فوات الأوان ؟
Post A Comment: