أظن – إذا لم أكن مخطئا- أن الجيل الراهن من الشباب والشابات في المملكة منفتح على نوعين من المعرفة , شغوف بهما اطلاعا وكتابة, الإقبال على الفلسفة من جهة , والآداب العالمية وبالخصوص الرواية من جهة أخرى . 

فما يخص الفلسفة , فلو أخذت جولة على المنصات الثقافية أو الملاحق الثقافية في بعض الصحف أو الحسابات العديدة في السوشل ميديا ؛ لخرجت بانطباع عام , مؤداه أن هذا الجيل يمتلك الرغبة بالتمايز في الهوية والتفكير وإثبات الذات , عما سبقه من الأجيال , مستثمرا كل التقنيات التي توصله إلى المعلومة , وكل الطرق التي تسهل معها الاتصال الثقافي بين البشر. 

وعندما يتساءل المرء : لماذا الفلسفة تحديدا ؟! 
يتبادر إلى الذهن العديد من الاحتمالات التي تفسر هذا التوجه , أقواها غياب تدريس الفلسفة في النظام العام للتعليم من جهة , وتشدد رجال الدين مع كل من يتعاطى مع الدرس الفلسفي أيام الصحوة من جهة أخرى. 

هذان الاحتمالان وقع في فخهما أجيال : تعلمت وتخرجت وتشكل وعيها التعليمي بمعزل عن التفكير الفلسفي. ومع تصاعد منسوب الانفتاح الثقافي منذ جيل التسعينات وما بعده , بدأت الأمور تأخذ مجرى آخر.

عند جيل التسعينات بدأ التفكير الفلسفي يتسلل عبر انتشار المناهج النقدية , وتحديدا هما ( البنيوية , التفكيكية) , وبرزت آنذاك على واجهات الصحف ( الرياض , الجزيرة , اليوم , عكاظ ) المقالات الصحفية ذات الطابع السجالي , وذات التطبيق العملي على العديد من النصوص المنجزة , وانخرط في هذا السجال والنقاش الناقد الأكاديمي والصحفي, فهناك من كان يرفض جملة وتفصيلا هذه الموضات المنهجية كما يسميها , وهناك من تحمس لها وطبقها في اشتغالاته النقدية . 

الأجيال اللاحقة ورثت هذا المشهد . لكنها لم تقع في الإرباك الذي وقع فيه جيل التسعينات ( حينما أشير إلى جيل التسعينات , فأنا لا أعني به الجيل بالمطلق , وليس كله أضعه في سلة واحدة , بل عنيت به البعد الزمني لا غير ) بوصفه جيلا عانى ضغطا في التلقي دون سابق انذار- هذه تحتاج إلى تفصيل وشرح ليس هنا محله – بل وجد نفسه منفتحا ومرتاحا في سبيل تأسيس وعيه الفلسفي على أسس قوية, بعيدا عن تأثيرات سلطة الأب من الأجيال اللاحقة , وهذا من أهم العوامل التي حفزت الجيل الحالي في الإقبال على الفلسفة . 

أما ما يخص الرواية تحديدا , فالأمر لا يحتاج إلى كثير من الشرح أو التحليل , فتأثير الرواية في آداب العالم منذ دخول الحداثة هو أمر واقع , فكل دارس للتطور في ثقافات العالم, لابد أن يأخذ في حسبانه وقع هذا التأثير على مجرى التطور ذاته . 

فقد توسعت خريطة المنجز الروائي في المملكة , وتعاقبت أجيال وأجيال في كتابته , وظهر روائيون نجوم على مستوى الوطن العربي . لذلك من الصعوبة بمكان لا تجد الرواية حظوة ومنزلة في نفوس الجيل الحالي كتابة وقراءة . 

لكن السبب الأقوى – في ظني- يتمثل في قدرة الرواية على تمثل الذات في جميع حياتها التفصيلية الصغيرة منها والكبيرة , فهذه المساحة التعبيرية , لا تحظى بها بقية الأجناس الأخرى التعبيرية . ناهيك أن تاريخ المكبوتات في الثقافة التربوية المتشددة في السعودية دفعت باتجاه الكتابة الروائية , لأنها الأقدر على تسريب مثل هذه المكبوتات في نص روائي وإن كان في أغلب الأحيان في حدود البوح . 

لكن بالمحصلة يقودنا هذا التحليل إلى تساؤلات عديدة منها : أين موقع الشعر من هذا الشغف أو الإقبال ؟ وهل الإقبال على هذين النوعين فقط , أدى فيما أدى إليه إلى تقاعس عن تطوير النص الشعري وتحديثه ؟! هذا ما سنتناوله في المقال القادم .



Share To: