البراءة لا تكبر معك ، ولا تغادرك . لكنها تعرف أن يوما ما ستعود إلى بيتها الأول ، مدفوعة بالتخلي عن الرغبة ، التي هي نفسها حفزتها على الخروج ذات يوم .
العودة ليست عودة تماما ، ثمة ما يشدها إلى الالتفات نحو الوراء ، الباب الموارب ، خطوك الذي تقصدّت أن تتركه عاريا بلا غطاء كي يلفت الانتباه ، فزعك الذي كسرت إحدى قدميه ، وجعلته يعرج ؛ حتى تشفق عليه وتحنُّ ، بكاؤك الذي أخذته من حضن أمك وأنت في المهد ، ثم كومته على العتبة ، وأوصيته ألا يغادر قبل أن يرى نفسه وقد تحول إلى صراخ ، خوفك الذي تمرد عليك وتركك وحيدا قبالة برد الصحراء ، توسلتَه أن يلبس ثياب الحداد ، وكأنه ذاهب لعزاء أحد الأقارب، ويقف بجوار البيت دقيقة صمت حدادا ، لعل وعسى ترقّ وتعود عن العودة ذاتها .
لكنك الآن لا تأمل شيئا يحدث ، لعبة الكلمات لا تصنع الفارق ، وإذا صنعت ، فأنت بحاجة إلى أن تحفر طرقا متعددة ، تنقل فيها عبر شاحنات عملاقة، كل الأحاسيس التي كانت ترعاها البراءة منذ الطفولة .
وهذا صعب عليك ، وحتى لو فرضنا أنه كان بإمكانك ذلك ، فإن السؤال : كيف يظل الإحساس هو الإحساس إذا ما نقلته من مكان إلى آخر ؟! ثم ماذا عن البراءة التي تريد أن تعيدها إلى حقل طفولتك مثل غزلان شاردة أليس لها رأي فيما تصنع ؟!
المسافات والطرق في داخلك تتقلص ، وحركة الأشخاص وضجيجهم تقل ؛ حتى أنك من نافذة منزلك لا يعبرك سوى مشهد وحيد طوال اليوم . حدائقك مهجورة من الناس ، وشيئا فشيئا ينسحب المشاة من أرصفتك ، ولا شيء سوى الغبار المتروك على حافة ذكرياتهم العابرة .
البراءة تقول : الوحدة قاتلة ، ولا أعمل وحيدة ومهجورة. لذلك لا تترك الباب مواربا ، ولا تتوسل خوفك ، ولا تتحايل على خطوك ، ودع فزعك يأخذ بيد بكائك كي يغادرا ، فأظن أنني سأعيش على إحساس واحد ، كنتُ خبأته عنك يوم كنتَ توزع نقود برائتك مجانا ، من دون مقابل ، لكل من تقع عليه عينك في طرقك الشاسعة .
Post A Comment: