منير الأدريسي
___

كانت للمأساة الإنسانية في فلسطين تجلّيات واضحة على أراض شعرية، ولعلّ أرض محمود درويش كانت خضراء وعالية بشكل مكنها من أن تكون المسكن الوجداني الحقيقي لتلك المأساة.
عتّقت قصيدة درويش المكان في تاريخ طويل يمتدّ من جلجامش إلى حدود لحظتها حيث تقف؛ منصتة إلى ما يجري خلف النافذة، وما ترويه الأخبار، وما يعكسه المشهد من تحرّك الدبّابات مترا آخر في اتجاه تقويض أيّ هدنة تتيح للشاعر وقتا لصنع فنجان قهوة.
لقد حمل النصّ وجه المكان وسماوية الأرض القديمة بلغة إشراقية نبويّة استبطنت الحداثة في حوارها مع الشعريات العالمية، وفي معنى الوطن كما في الفكر. بنبرة درويشية خالصة صاغت بشكل لافت انحناءة خاشعة، لاحتواء العبارة في إيمان قويّ كما لآخر فرسان العصور الوسطى.. ورفعها إلى مستوى أفق ميتافيزيقي باخع الغنائية. ببُعد روحي لا يبشّر بالقيامة، بل يقيم محكمة في ضوء الضمير والعدالة بين القاتل والضحيّة، أو يستعرض تشكّل الهوية، في شريط مشهديّ لا يخلو من الإيقاع الملحميّ، يقيم الحجّة ويحرج الحاضر بعبثيته وانعدام حسّ العدالة فيه.
لقد تفرّدت قصيدة محمود في شحذ أدواتها الفنية لمخاطبة الشعور واللاشعور الجمعي أيضا، ومداعبة وتر الحسّ الخيالي للعقل في استبطانه بشكل جليّ حركيّة الواقع ومَكر التحوّلات، كما السؤال الوجودي للرد، بل لقد مثّل النّص كيان وتجربة الشاعر ورؤاه في كلّ متماسك. إنّها مسألة وجود واختبار لا ينفصلان عن مسيرة الشخص الفرد أرادها حرّة في الأثر الشعري؛ صانعا بنفسه ما يريد، صانعا هذا الشاعر.
من هذه التوليفة المبهرة، صاغ درويش حريّته لغةً منقادة للإرادة القوية.. وحلّق عاليا من دون أن يبشّر بعلوّ، بل أن يعبّر عن قدره الخاصّ متّصلا في جوهره وعلّته بتراجيديا شعب بأكمله.
أدرك محمود درويش بذكائه وموهبته أمام شرطه التاريخي ودوره الإنساني النّاصع كشاعر، أهميّة إبرام عقد ثقة مبني مع القارئ الذي يتوجّه إليه بلغته. هذا القارئ الذي أمكن تواجده لحسن الحظ على رقعة جغرافية كبيرة من المحيط إلى الخليج، والذي أمكنه أن يشترك مع الشاعر في مرجعية غنية الدلالات واضحة المنطلق والهدف. وقد كان عقد الثقة ذاك بالأساس هو حبكة اللّغة الشعرية في تمظهرها الإيقاعي الشفوي المنساب في وضوح شفيف أكسبها غنائية أصيلة، رعوية الجنوح، بمحمول إيحائي وسيميائي مشترك، من دون أن تفقد مرونتها وهي تنهل من مضامين حداثة القول الشعري، وتتفاعل مع راهن التجارب الشعرية الأخرى، ما جعل النّص الدرويشي علاوة على حمله لإرث لغوي فنيّ غنيّ، تجديدا متواصلا وعملا منفتحا؛ أكثر إصغاء لجديد الشعر واقتراحاته الجمالية، بما في ذلك قصيدة النثر التي لا تحفظات لمحمود بشأنها أبداً ولا اعتراض، إلاّ بكونه لم يكتبها بعد.
لكن، تغوي الشاعر الإمكانات الجمالية والتعبيرية المتاحة في زواج النثر بالشعر، وتدعوه إلى اختبارها وإن بشكل خجول في أعماله الأخيرة، أو بوضوح شديد في كتابه «أثر الفراشة» الذي تضمّن حماسة من يشغله سؤال الشعر كما جديّة الباحث المنقّب عن بدائل جديدة توسّعُ صدر النّص من أجل فسحة تعبير أكثر رحابة وعمقا. في تلك المنطقة الخطرة والصافية التي اختبرها درويش في كتابه السابق الذكر، خرج بالتباس صحيّ حول جنس النّص إن كان شعراً أونثرا.
والأكيد أنّ الالتباس الذي أشار إليه الشاعر كان من منطلق سؤال الشعر، لا النثر. لا أدرية درويش كانت إيماءة إلى لاأدرية أخرى أمام ماهية الشعر ذاته.
كتب محمود درويش بقلبه ولغته من أجل الشّعر أوّلا وأخيرا، فلسطينيته كانت جزءا لا يتجزأ من ذاته بشكل بديهيّ، لا واجبا وطنيّا. وحين كان يعبّرُ عن هذه الذات كانت تبدو على هذا القدر من الحجم الذي يمكن وضعه بأريحيّة في مكانه من قضية بلاده؛ هذا التماهي العجيب وإن حمّله «الحب القاسي» ما لا يحتمله شعرٌ طموح يريد أن يبقى خالصا بمسافة عن عواطف الجماهير التي تصنع أيقوناتها تبعا للحظتها، فإنّه كان يُعبِّر في الظلّ والعمق عن شعرية حاملة لجينات شاعرها، تنكشف في موتيفات تحتاج منّا دراستها في بعد نفسي صرف؛ تلك التي تتمظهر – وإن مسّ بعضها التجدّد أو التحوّل – عبر نتاج الشاعر كلّه؛ ممّا يفيد تحليل هذه الصهارة الأسطورية لذات اكتملت بنشيدها العالي في نصّ ثملٍ بالأرض ومعاني الغياب. لذلك عانى درويش من قراءة ينقصها البطء والتبصّرُ في منجزه، وهما شيئان مطلوبان لحمل شعر استثنائي – قياسا إلى درجة الانصهار هذه – على وجهه الأمثل، وفي معناه الخالص.
لم يختر درويش فلسطينيته لأنّها كانت قدره، بل اختار الشّعر وكان له ما أراد. كان الشّعر إرادته الحرّة ومسألته الوجودية التي اعتبرها مشروع حياة.
يحقُّ للشّاعر الحرّ أن يعبّر عن ذاته، هذه الذات التي ليست سوى تفاعل وانفعال بعالمها؛ مقطّرا عبر رشاحة الحلم ومتحوّلا عبر كيمياء اللّغة، ثمّ منظورا إليه في قصيدة لا تريد أن تنتهي.. قصيدة تداوم على التجديد والإبتكار في منحى أفقي يقلّبُ فيه ذكاء الإحساس بكيان الشّعر، أرضا تظلّ بكرا؛ هي أرض القصيدة.
_
التقطت هذه الصورة في 2002، في إحدى شوارع الرباط مع الشاعر محمود درويش





Share To: