كانت تلك الجلاليب الصوفية الرجالية تستفزني بقدر ما تثير فضولي وتستهويني.
معلقة الواحدة قرب الأخرى في علاقة خشبية خضراء ذهب لونها، كانت دائما هناك، ربما قبل أن أخلق، لا أتذكر.
كانت طويلة ممددة كجثث معلقة متراخية دون رأس ولا أرجل ولا هيكل عظمي يسندها، مخلوقات غريبة متدلدلة، متدلية آتية من العالم الآخر. جامدة دون حراك لا يكاد يلتفت لوجودها أحد وكأنها تعيش سباتا عميقا طيلة ثلاث فصول.
ربما كانت تسافر أرواحها خلال سباتها إلى العالم السفلي، مملكة الظلام، لتقوم بخدمة إلاه الموت لحين قدوم ذلك الفصل الممطر لتبعث فيها الحياة من جديد. تصعد للعالم الفوقي، وتساهم بحضورها في تعزيز تلك الحكايات الغريبة التي يتداولها الناس بهمس مخافة إزعاج الأشباح المتربصة في ثنايا وأركان ذلك البيت.
كان عددها بعدد إخوتي الثلاث ورابعة أهملت لأنها لم تعد بمقاس أحدهم. كانت ألوانها داكنة ما بين أسود ورمادي.
كنت أتساءل دائما عن السر في عدم استعمال ألوان زاهية لنسج هذه الجلاليب، مع أن أمي كانت بارعة في اختيار عشرات الألوان الزاهية لصباغة الصوف المخصصة لزرابيها الكثيرة المزركشة ببهجة الحياة. أهو الوقت الطويل الذي كانت تستغرقه لتخرج إلى الوجود؟
فرحة عارمة تشملني حين تقرر أمي حياكة زرابيها كانت، دائما تبدأ بالرسم على أوراقها الطويلة العريضة خطاطات كتصاميم مهندس معماري. تسهر على إنجازها أياما وليال عدة. تضيف خطوطا وتمسح أخرى وكأنها تبني قصورا ومدنا لا تنتهي أو تساهم في إعادة خلق العالم من جديد. كانت تلك الزخرفات بالنسبة لعقلي الصغير طلاسم هيروغليفية لا يفك شفرتها إلا عقل أمي الخارق.
بعد أيام من التخطيط، تمر لمرحلة تلوين تلك الخانات بطريقة مدروسة كرسام يصقل مسودته بغية الوصول للكمال.
كنت لا أفارق أمي طول هذه المرحلة طامعة في كرمها لمشاركتها تلوين تلك الخانات وكأننا في مسابقة تلوين الماندلا. بمجرد أن تسمح لي بلمس أقلامها الملونة حتى يقفز قلبي الصغير ليزعزع قفصي الصدري من الفرح. فما بالك عندما تسمح لي بملء بعض تلك الخانات الفارغة الممتدة الى ما لا نهاية. بعد أن تشرح لي المسار الذي يجب إتباعه، وتطمئن أنني فهمت الدرس تتركني مدعية الثقة بي، رغم أني أحس بنظراتها خلف ظهري تثقل كاهلي الصغير قائلة :
- أعرف أنك مهووسة بالألوان، لكنك لن تخذليني هه؟
كانت لا تنتظر إجابتي وهي تلاحظ جحوظ عيناي، وتشبتي المستميت بالأقلام الملونة لحد تكسيرها كمدمن عثر على ضالته بعد طول حرمان.
أما نسج الجلاليب لم يكن يحتاج كل هذه المهارات الفنية. لا تفكيرا، ولا دراسة ولا شهورا طويلة وراء المنسج لترتيب تلك العقد المتراصة المتناسقة الألوان والأحجام سطرا بعد آخر، وخيطا تِلْو آخر. كانت عيون كل من يقيم في المنزل تتتبع تطور صناعة هذه الزربية بتعدد أعمارهم وأجناسهم. حتى الجيران وكل من يزورنا يتلصص النظر عن كتب وفضول غريب، ليعرف مصير تراكم تلك الخيوط التي تتمايل بين أصابع أمي كموجات هادئة وهي تحاول تمريرها بين دفتي خيوط السدى، والملايين من العقد الملونة التي لا تكل من تقطيعها بمقاس الأصبع لتأخذ مكانها في صفوف متوازنة تتسلق الواحدة تلو الأخرى لتعانق في عشق خيوطا أفقية تمتد في خشوع نحو السماء حتى تظهر معالم تلك الزربية واضحة أخيرا بعد طول انتظار. كان فعلا حدثا قد يستمر لشهور حسب أهمية اللوحة ومقاساتها. لدرجة أن الأسرة تحتفل بقدوم هذا المولود المزركش بيننا.
نسج الجلاليب لم يكن يتطلب نفس العناء والعناية. يحتاج فقط لخيوط النسيج ذات اللون الواحد، ونفس الحركات الرتيبة لتثبيت الخيوط في السدى... ومع ذلك كنت أعشقها.
لقد حضرت ولادتها الواحدة تلو الأخرى، وأستغرب لذلك الشعور الممزوج بالرهبة والإعجاب اتجاه هذه الجلاليب الصوفية الغليظة الخشنة الثقيلة. باستثناء تلك الأشرطة التي تحاول تلطيف خشونتها، تجمع طرفيها من الأمام والجانبين وتحيط غطاء رأس الجلباب الكبير الذي يُرمى بِرُقِي على الظهر. وتلك الأزرار الصغيرة الكروية التي يتفانى الخياط في ترصيصها من الأمام كعقد زمرد، من تحت الرقبة إلى مستوى الرجلين، رغم هذه المحاولات الجاهدة، فتلك الجلاليب تبقى بسيطة وساذجة. لكنني كنت مغرمة بها.
كنت أعتبره حيفا أن يمتلك إخوتي الذكور مثل هذه التحفة من دوني. كنت أمتلئ غيضا لأنني لم أولد ذكرا فقط حتى أحظى بشرف لبسها.
كان عقلي الصغير يضخم لي محاسنها. أتصور إخوتي محظوظين وهم يتبخترون بزهو أمام أصدقائهم. أحسدهم على السعادة والدفء الذي يلفهم به هذا اللباس العجيب من قمة رأسهم الى أقدامهم. بينما لا أنعم إلا بمعطف قطني عادي لا يرقى لأبهة الجلباب وجماله ودفئه. وعندما أبوح لأمي بشهوة امتلاك واحدة مثلهم كانت تجيبني:
- رعناء حتى في ذوقك.
لتطلق ضحكة ساخرة من سذاجتي وتدير ظهرها تاركة إياي في حيرة من هذا الاستخفاف بالجلباب الذي تصنعه بيدها بكل حب.
لم أتجاوز العاشرة من عمري آنذاك، عندما قررت لبس الجلباب الرمادي المهمل خفية عن الجميع حتى عن أصدقائي المقربين مخافة الاستهزاء بي.
كنت قد خططت لهذا الأمر منذ عام، ولم تحن الفرصة قط، إلى أن جاء ذلك اليوم دون سبق إصرار ولا ترصد. كانت تفرغ فيه السماء كل ما في بطنها من مدخرات السنة من مطر. كان يوما رهيبا. سماء مكفهرة، وغيوم سوداء محملة رعدا وبرقا، وزمهرير برد قارس ومطرا لم يتوقف منذ ليلة البارحة. حتى أن الكل كان يتخوف من اختناق مجاري المياه وغرق البلدة، ككل مرة تغضب فيها الآلهة.
كانت أمي في حالة خوف أن يلحق مكروه بإخوتي الذين التحقوا بمدارسهم منذ الصباح، إلا أنا، كان مبرمجا أن ألتحق بالقسم بعد الزوال لمدة ساعتين فقط.
كنت معتادة الذهاب للمدرسة بمفردي منذ زمن، لأنها ليست بعيدة عن منزلنا، والطريق آمن. أمرتني أمي ذلك اليوم أن لا أذهب مخافة إصابتي بمكروه، لكنها أمام إصراري لم تلبث أن أذعنت على مضض ممزوج باستغراب.
لم يكن هناك أحد في البيت غيرنا، كانت مشغولة بأعمالها اليومية. استغليت الفرصة لأخرج خطتي الدفينة قيد الوجود، وأرتدي الجلباب المعهود وأخرج خفية عنها لأذهب للمدرسة قبل حلول الوقت بساعة. في حين لا يتطلب الوصول إليها سوى خمس عشرة دقيقة مشيا على الأقدام.
كنت أتمشى بزهو وأنا ألبس جلبابي، رغم أن أطرافه السفلى تتمرغ في الأرض لاتساعه على جسمي النحيف، وأضع قبعته الكبيرة فوق رأسي وكأنني أرتدي قبعة الإخفاء، لم يتعرف علي أحدهم، رغم أن في بلدتي الصغير الكل يتعارف.
- إذا لا أحد يراني!
أحسست فعلا بذلك الدفء الذي كنت أتخيله منذ زمن، كان يسري في كل خلية من جسمي وكأنني أحس بطعم الحياة لأول مرة، أبعث كالأميرة النائمة بعد قبلة العشق. أجري بفرح تحت مطر مشاكس أتحداه بعناد كما أتحدى غضب الآلهة وكأنني صرت واحدة منهم.
كان حلمي في تلك اللحظة أن تنفجر السماء سيولا لتهطل على رأسي الصغير دون سواه من البشر. أطلت الطريق، سلكت منعرجات وأزقة صغيرة، ضيقة، طويلة، لا أعرفها، فجلبابي السحري يحميني.
لم أترك بركة ماء، كبيرة ولا صغيرة إلا واخترقتها، ولا ميزاب أسطح المنازل والدكاكين والمتاجر إلا ومررت من تحته ليفرغ سيوله على رأسي. كنت فرحة لم أبال للمياه التي اخترقت جلبابي وحذائي ومحفظتي. وصلت للقسم قبل الجميع، نزعت عني جلبابي علقته واتخذت مكاني العادي وكأن شيئا لم يكن. لم أكن اسمع ما يحدث في القسم. كان بالي مشغولا بالجلباب المعلق في الخلف ألتفت كل دقيقة بلا شعور لألقي عليه نظرة. لم أعر اهتماما لا للدرس ولا لجلبة زملائي التلاميذ. في لحظة من الزمن لم أعد أسمع ما يدور حولي، وكأن الزمن قد توقف وتوقف معه صوت معلمي وكل الضجيج والجلبة الناتجة عن صياح زملائي لتحمسهم لهذا اليوم المشحون بهدير الرعد والبرق. كان الصمت مطبقا، بل أصبح المكان فارغا إلا مني وهذا الجلباب الرمادي المعلق في ذلك الركن من الفصل. أكانوا يعتبرون ما يحدث شيئا مميزا؟ لقد كان كل شيء عاديا بالمقارنة مع ما أعيشه من تضارب أفكار متشابكة وتجربة عظيمة. حتى غضب الآلهة لا يساوي شيئا أمام هذا الحدث الجلل تلك اللحظة. لبست جلبابا صوفيا ازداد ثقله إلى ضعف جسدي الصغير مع كل تلك المياه التي تشربها، وتجرجرت أطرافه السفلى لكبر حجمه على الأرض محملة بأطنان الطين والوحل، كل هذا مقبول في هذا الطقس المكفهر، لكن ما كان غير عادي هو أن الجلباب كان محظورا علي وحكرا على الذكور دون الإناث. أحسست بزهو وعظمة أمام هذا التحدي لأمي، لأسرتي، للمجتمع، لأمنا الطبيعة ولغضب الآلهة. لم أحس إلا والمعلم يخاطبني وهو يربت على كتفي بلطف، قفزت من المفاجأة كأنه أيقظني من سبات عميق.
- باسم الله عليك.
تحسس جبهتي أمام ذهولي. وقال:
- ماذا بك صغيرتي؟ حرارتك مرتفعة قليلا؟... ألم تسمعي ما قلت لزملائك؟
التفتت فوجدت نصف القسم فارغا من التلاميذ والباقي يلبس معاطفه المعلقة، ويحمل مظلات ملونة استعدادا للذهاب.
فقد أمرنا المعلم بالمغادرة بعد ساعة من الدرس لسوء أحوال الطقس والظلام الذي لف الجو باكرا.
رافقني خلف الفصل لمساعدتي في ارتداء معطفي المشمع الذي أرتديه عادة في الأيام الممطرة ليحميني من تسرب المطر فتفاجأ بوجود الجلباب. سألني :
- أهو لك؟
- هو لأخي أعطاه لي قبل الحصة لآخذه معي إلى المنزل.
أجبته وأنا أطأطأ رأسي خجلا.
- ارتديه مع أنه ليس على مقاسك حتى يحميك من هذا المطر، واذهبي بحذر لمنزلكم فهذا المساء لا يحمد عقباه.
ارتديت الجلباب وذهبت جريا باتجاه الشارع بعدما ودعت معلمي.
أخذت اتجاه بيتنا بعد ساعة من التسكع في الأزقة منتشيه بفرحي متلذذة بكل دقيقة في جلبابي وقبعته السحرية. ما زاد سحره تلك الرائحة الغريبة التي أزكمت أنفي، رائحة الصوف ممزوجة بماء المطر والطين، رائحة فريدة لن يستطيع أبرع مخترعي العطور في استخراج هذه النكهة ولو امتلكوا أعلى تقنيات التصفية والتقطير.
وصلت أخيرا لباب منزلنا فنزعت عني الجلباب قبل أن أرن الجرس وضعته في كيس أخذته معي لهذه الغاية وخبأته وراء ظهري بعدما لبست معطفي المشمع.
فتحت أمي الباب بفرح لرجوعي سالمة. وعندما همت بتقبيلي وجدت حرارتي مرتفعة وجسمي يرتعد كورقة الخريف في مهب الريح وملابسي مبللة من منبت شعري حتى أخمص قدمي.
أخدتني بين دراعيها لتهرول للداخل فزعة وهي تولول.
أزالت عني كل ملابسي المبللة وألبستني أخرى ساخنة. استغليت ذهابها، لإحضار شراب ساخن، لأعيد الجلباب الى مكانه. وفي طريق العودة لفراشي خارت قواي وسقطت مغمى علي. بعدها لم أدر ماذا حدث.
بعد استيقاظي كانت كل أطرافي تؤلمني لا أستطيع حتى مد يدي لأمررها على عيني كما كان يحلو لي فعله عندما أستيقظ. علمت من أختي أنني كنت سأفقد حياتي بالحمى التي أكلت جسدي لولا لطف الله وأنني كنت أهدي بالجلباب الرمادي لمدة يومين.
عندها فقط علمت أن الجلباب الصوفي لم يكن يوما سحريا، لم يحمني من الموت، لم يحمني حتى من البلل. بل على العكس بسببه فقدت حريتي وبقيت مكبلة لمدة أسبوع أعاني نزلة برد حادة.
فجأة فقد كل بريقه في نظري، أصبح عاديا جدا، حتى أنني نزعت عنه صفة لباس. لم يعد يعجبني حتى في نسخته النسوية الأنيقة. لم يلمس قط جسدي إلى يومنا هذا.
Post A Comment: