اعتمدت مسرحية (الخاتم) * للأستاذ محي الدين زنكَنه للوصول إلى دلالات تم الإعلان عنها في الإضاءة التي رغب المؤلف التصريح بها في مقدمة المسرحية، على تبادل أدوار الشخصيات فيها، بين التاريخي المعيش في مرحلته، وبين الفني المفترض في أزمنة لاحقة عليه، عبر ما امتلكته من دلالات تتصل بالمرجعية المرتبطة بهارون الرشيد/ جعفر البرمكي/ زبيدة/ مسرور، التي تمتلك أكثر من صورة تبعاً لتعدد تلك المرجعيات.
فالتاريخية تكفلت بها وقائع المدة التي حكم بها هارون الرشيد دولة مترامية الأطراف تتسم بالقوة والرخاء. وإن تحديد ملامح هذه الشخصيات اعتمد المصادر التاريخية التي رسمتها. سواء كانت تلك المصادر متعاطفة معها أم بالضد منها، غير أنها حاولت أن تكون موضوعية، أو أنها ادعت ذلك، من خلال ربط الأحداث بمسبباتها وفق الرؤية الفكرية التي تقف خلفها إلى المتلقي.
أما المرجعية الفنية، وكانت لحكايات شهرزاد في (ألف ليلة وليلة) أثرها الأكبر في خلق ملامح هذه الشخصيات، عبر افتراضها واقعاً فنياً يرتبط بالرؤية الشعبية للمرحلة التاريخية التي عاشت بها تلك الشخصيات، بوصفها عناصر مؤثرة في الواقع التاريخي الذي وجدت فيه.
فنكون بذلك أمام أكثر من مرجعية، تتكفل كل واحدة منها بما تراه مناسباً لمنطلقاتها وتصوراتها عبر واقع تاريخي معاش في حينه أو واقع مفترض في النص. غير أنها في جميع الأحوال تستثمر الملامح المشتركة للمرحلة التاريخية تلك، لخلق ترابط بين التصور الفني والرؤية التي تقف خلفه. وإذا كانت المرجعية التاريخية تخضع لسياق تحليل، فإن المرجعية الفنية تخضع إلى سياق تحليل مختلف. وإذا كانت المرجعية التاريخية تتعرض لمحاكمة الواقع وما يتصل به من خلال تفسير الوقائع، فإن المرجعية الفنية لا تخضع لها.
إزاء فروق من هذا النوع بين مرجعيتين في تناول مرحلة تاريخية، أو شخوص من تلك المرحلة، خصوصاً المتحكمة فيها، فإننا نصل إلى نتائج مختلفة تبعاً لنوع الباعث أو التناول أو المعالجة أو الرؤية التي تقف خلفها.
فإذا كانت التاريخية يشوبها التناقض، بين مؤيد لها ومعارض، فإن الفنية، بالضرورة، تعكس هذا التناقض بالميل إلى أحدهما، وإن بدت بمعالجة فنية لواقع تاريخي عبر واقع افتراضي ليعكسه المنجز الفني، أو برؤية ثالثة تحاول الوصول إلى الواقع المعاش في زمن الكتابة، عبر مناقشة الواقع التاريخي ونقده.
على الرغم من تعدد الخيارات أمام المؤلف، غير أنه، عبر المجتزأت التي جعل منها إضاءة سابقة على المقدمة، يكون قد حدد خياراته من خلال انتقائها. فمن التاريخية عد المسعودي في (مروج الذهب) مدخله إلى هذه الشخصية: ((كان هارون الرشيد ينفق على طعامه عشرة ألآف درهم يومياً، ويومياً يعد له الطهاة ثلاثين صنفاً)) (الخاتم ص5). ومن الفنية انتقى من الليلة (296) من ألف ليلة وليلة: ((يا معشر الناس كافة من كبير وصغير وخاص وعام وصبي. كل من نزل وشق الدجلة ضربت عنقه، أو شنقته على صاري مركبه...)) (الخاتم ص5). وقد أضاف المؤلف من نصه المسرحي (الخاتم) مقطعاً منتقى: ((تعزوني بعض الأحيان، حالات تشظيني، تفتت روحي، تزعزع إيماني، أقف خلفها أمام نفسي المفتتة المشتتة، عاجزاً عجزاً تاماً غير قادر على لمها)) (الخاتم ص5).
فتكون بذلك الرؤية التي حاول المؤلف التعبير عنها، قد إسترشدت بهذه الإضاءة فيما يتصل بالشخصية (هارون الرشيد)، أو حاولت الوصول إلى دلالات تتصل بواقع آخر من خلال إستثمار هذه الخصائص وإضفائها على الشخصية المحورية في المسرحية.
ولإدراك المؤلف هذه الحقيقة الفنية والتاريخية، جعله يميز بين (هارون التاريخي) وبين (هارون الليالي) وبين (هارون الخاتم)، بوصف المسرحية صورة المدرك لها من خلال استثمار ما توافرت عليه المرجعيتان السابقتان، فعد شخصيات (ألف ليلة وليلة)، ومن بينها هارون الرشيد: ((... تستمد وجودها المتحقق عبر الفعل والفكر لا من المادة التاريخية (...) من تفاعل (...) خيال القاص الشعبي للمادة التاريخية)) (الخاتم ص9). وبذلك نكون أمام شخصية مفترضة في الواقع الفني لليالي. ونفترض نحن، وفق هذا التمايز، أن يعمل المؤلف على استثمارها في الواقع الفني لمسرحيته: ((والخاتم تستنير في خلق شخصياتها وإبداع مخلوقاتها بنور الليالي وتستفيد بقدر ما من نهجها في سير أشخاصها وأحداثها)) (الخاتم ص9).
وبذلك يتم إقصاء التاريخي عن وعي، والحفاظ على الفني عن وعي أيضاً، عبر ما يمنحه من فرصة واسعة للتحليق في فضاء التأويل لخلق واقع فني جديد يصلح لمناقشة أفكار معاصرة، وإن بدت بثوب تاريخي، بل وتطويره عبر الاستنارة به.
غير أن إفتراضنا هذا لا يصمد أمام ما ذهب إليه المؤلف من أن: ((هارون (الخاتم) هو غير هارون (التاريخ) وهو غير هارون (الليالي) أيضاً)) (الخاتم ص10). فنكون بذلك أمام إفتراق ثان تلى الإفتراق الأول. فبعد إقصاء التاريخي يتم إقصاء الفني المرتبط (بالليالي) تحديداً. فيوقعنا ذلك في حيرة المرجعية التي غلبت بوضوح على أسماء شخوص المسرحية وبعض من أحداثها، ويدفع بنا إلى التساؤل:
- من هو (هارون) الذي أراده مؤلف المسرحية؟
ويتكفل المؤلف بالإجابة: ((إنه هارون ثالث، لا يمت إلى هارون الأول ولا هارون الثاني إلا بمقدار ما تمت النار المندلعة في غابة ... إلى جدحة أو شرارة سقطت فيها عفواً)) (الخاتم ص11).
وبذلك نكون أمام بناء شخصية جديدة لا تستمد من المرجعية التاريخية سوى إسمها التاريخي، ومن المرجعية الفنية سوى الأجواء التاريخية التي عاشت بها، فيكون تبدل المرجعيات يصحبه تبدل الدلالات المرتبطة بها. فكان بذلك ((وجوداً ثالثاً خارج وجوده المصنوع في الليالي، وخارج المدون في التاريخ، ولكن ليس خارج التاريخ ولا خارج العصر / الان)) (الخاتم ص11-12). أي أن التدرج في إقصاء المرجعيات المرتبطة بشخوص المسرحية كان موفقاً للوصول إلى القول: إن هذا الإقصاء كان متعمداً ويبتغي الوصول إلى واقع زمن الكتابة (الآن). وبذلك يتم إستبدال الواقع التاريخي بواقع فني مفترض (الليالي). وإستبدال هذا الواقع بواقع فني مفترض آخر، لا يستثمر سوى الأسماء وبعض من الوقائع من التاريخي والفني الأول لمحاكمة الواقع المعيش وانتقاده.
لكن، هل تمكن النص من الوصول إلى هذا المستوى من الأداء؟
فإذا كان لزاماً علينا التمييز بين النص المقروء مع المقدمة، وبين النص المقروء من دونها، فإن ذلك لا يتوافر مع النص المعروض (في حالة تمثيله)، لأن رؤية المقدمة لا تكون حاضرة في النص، مالم يتم التعبير عنها. فيتم التعامل مع العرض المسرحي بمعزل عن المقدمة، وهو ما يدفع إلى تقصي الدلالات التي رغب المؤلف الوصول إليها عبر (متن) النص المسرحي تحديداً.
توزعت شخوص المسرحية إلى ثلاث فئات، تمثل إثنتان منها موقفاً متناقضاً، وبقيت الثالثة في موقع قلق بالانحياز إلى أي فئة من الفئتين المتصارعتين.
الفئة الأولى:
(الخليقة/ الوزير/ السيدة/ التاجر/ السياف/ الفضل/ المنادي/ الحاجب الأول/ الحاجب الثاني). تمثل (الخاصة) في المرحلة التاريخية بمصدريها التاريخي والفني، وتنحاز إلى هذا الإنتماء بخصائصه المعروفة سياسياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً.
الفئة الثانية:
تألفت من الشخوص الآتية: (أبو الأيسر/ أبو السعد/ نعم/ إبراهيم/ رحمن/ زينب/ القراد/ القرد/ مساعد 1/ مساعد 2). تمثل (العامة) في المرحلة التاريخية ذاتها وبخصائصها المناقضة للفئة الأولى.
الفئة الثالثة:
تمثلت في (فرات/ سلمان/ الرسول)، وهي تنتمي طبقياً إلى الفئة الأولى، أو في أضعف توصيف لها، لا تمتلك موقفاً مضاداً من الفئة الأولى، خصوصاً في مراحل بنائها الأولى في النص.
لقد عمد النص المسرحي في التعامل مع هذه الشخوص إلى إحداث متغير شكلي في انتمائها، عبر إستبدال كل طرف منها صفته الطبقية (من الخواص إلى العوام) ومن (العوام إلى الخواص) للوصول إلى غايات تختلف عن غايات الطرف الآخر. فكانت على النحو الآتي:
الفئة الأولى:
تُعد شخصية (الخليفة/ الوزير/ السياف) أهم شخوص هذه الفئة، وتمثلها بصورة جلية، فإن الإستبدال فيها تم على النحو الآتي: صفة الشخصية بالإسم المعروف في المرجعية بالاسم المستعار في النص المسرحي: الخليفة هارون الرشيد، مروان للوزير جعفر البرمكي، زعفران للسياف، مسرور فرحان. وبذلك يتم التحول الشكلي فيها من طبقة (الخواص) إلى طبقة (العوام).
الفئة الثانية:
تعد شخصية (نعم/ أبو الأيسر/ أبو السعد/ إبراهيم/ رحمن)، أهم شخوص هذه الفئة، وتنتمي إلى العوام. غير أن ملامحها لا تشير على مرحلة تاريخية بعينها. وصفة العوام ملازمة لها، من دون ضرورة إنتمائها إلى الفئة الأولى. لقد تم الاستبدال فيها على الوجه الاتي:
اسم الشخصية في النص، بالاسم المستعار من المرجعيات: نعم إلى زبيدة، زوجة الخليفة/ ابو الايسر إلى جعفر، وزير الخليفة/ ابو السعد إلى مسرور، سياف الخليفة/ ابراهيم إلى السياف/1 /رحمن إلى السياف/2. وبذلك تتحول عبر هذا التغيير الشكلي من إنتماء طبقي (العوام) إلى إنتماء طبقي (الخواص).
في حين حافظت الفئة الثالثة على خصائصها الشكلية من دون تغيير. لأن المقصود من إحدث المتغير لدى الفئتين الأخريين يستهدفها بشكل مباشر.
إن التغيير الشكلي الذي قصده النص المسرحي، كان يهدف، لدى كل فئة، إلى غاية مغايرة لدى الفئة الأخرى. فإذا كانت الفئة الأولى ضاغطة سلباً على الفئتين الثانية والثالثة، فإنها بتحولها من صفة (الخواص) على صفة (العوام)، لم تكن تريد بذلك الاقتراب منهما أو معالجة الجفاء بينها وبينهما، وإنما لغايات أشار اليها النص، وترتبط بنزوات (الخليفة) وإرضاء شهواته. وهو هدف مناقض للتحول لدى الفئة الثانية (من العوام إلى الخواص)، الهادفة إلى تثوير الفئة الثالثة المنتمية إليها طبقياً، والمهادنة للفئة الأولى، والتحريض عليها.
وبذلك نكون أمام تغيير مضموني أدى إليه التغيير الشكلي الذي أحدثه النص. وهو ما يجعل من الانتماء على فئة واحداث المتغير عليها يؤدي إلى الإستبدال الشكلي للإنتماء لأداء مغاير لهذا الإنتماء، وبذلك يتم تبادل الأدوار بين الفئة الأولى والثانية كل منهما بالاتجاه المعاكس للأخرى، ليؤدي ذلك التبدل إلى خلق دلالات جديدة ترتبط بالرؤية التي يقف خلفها الانتماء لكلا الفئتين.
لقد استثمرت المسرحية من المرجعية التاريخية معلومة تخفي هارون الرشيد بأزياء وصور عدةن، والتجوال في بغداد، للوقوف على أوضاعها. واستثمرت من المرجعية الفنية، ادعاء بعض العوام في (الليالي) وانتحالهم شخصية هارون الرشيد للوصول إلى اغراض شخصية. لقد عمل الفكر الخلاق للفنان على استثمار الخاصيتين من المرجعيتين ودمجهما في عمل درامي مشترك للوصول إلى تصادمهما في بوتقة المسرحية (النص) وعاء الفكرة. اهداف لا تتصل بأي منهما. فيكون المؤلف قد عمد إلى وسائل من بينها إحداث تغيير كبير في الرؤية التاريخية لشخوص المرحلة التي تناولتها المسرحية، لكنها لم تكن المعنية بهذه المعالجة ن من خلال اقصاء المرجعيات المتصلة بها على تنوعها، واِستحدثت علاقات جديدة مفترضة في بيئة لم تكن تلك العلاقات توافرت عليها المرحلة نفسها، غير أن ظلالها في زمن الكتابة أكبر وأوضح.
*مسرحية الخاتم/ مديرية النشر/ السليمانية/ 2004.
Post A Comment: