ـ نَقيق -
لم يعُد لـ ”مايك“ مِن شيء، سمعتهُ بوضوح وهو يقول:
( قنطتْ حياتي، وسأموت من الركود في البيت)
هذا ماقاله وهو يكلّم شخصا على هاتفه النقّال، كنتُ اراقبهُ، وأشعر بالحزن لأجله، فقد ارتبكَ وتلعّثم ولم يودّع الشخص على الطرف الآخر في المكالمة. عندما نقّتْ زوجته طالبةً منه شيئا يجلبه لها،كان صوتها اشبه بصافرة إنذار. توتّر“مايك“، وهي تصرخ به من فتحة الشبّاك، خافَ لدرجة الرعب، واقفلَ الخط بوجه صاحبه وهرع نحوها مُتصنّعا ابتسامة شاحبة وهو يقول:نعم حبيبتي، أنا قادم .
كانتْ زوجته - التي يناديها بـ اسم ”فرناندا“ - امرأة قصيرة ممتلئة، داكنة البشرة، لارقبة لها، مُشعِرة كرجل خشن، وينتّشرعلى بشرتها نوع من البقع المُنفِرة، وكان لها صوت ضفدعة بالغة، نعم، ضفدعة مزعجة كتلك الضفادع التي تعيش في بعض بُرك الماء الراكدة في الغابة المجاورة لبيوتنا، حيث كانتْ ضمن مجاميع الضفادع في مواسم تكاثرها التي تتسبّب بقلق كبير لي بنقيقها المقيت، دعاني هذا القلق إلى عمل مُجهد، حيث قمت بوضع مبيدات كيميائيّة كثيرة في البُرك المجاورة لبيتي، لكن دون جدوى، فهذه الضفادع لها قدرة عجيبة على حماية نفسها وتكاثرها، وبناءً على ذلك صرتُ أرى ”فرناندا“ زوجة جاري عبارة عن ضفدعة حقيقيّة مزعجة.
ليس من نسبة مقارنة بين ”مايك“ وزوجته، فهو رغم تجاوزه الخامسة والستين، لكنه مازال يمتلك وسامة واضحة، وله جسد رشيق يمتاز بطوله المناسب والمتّسق مع وزنه، وهو رجل يحبّ الرياضة والحركة الدائمة، والشيء المحبّب به هو الابتسامة الدائمة التي تسبق نظرته، على العكس من زوجته الضخمة، الثقيلة، التي تُشبه تركيبة هرميّة مثلّثة، والتي تنظر بغضب للأشياء بكلّ المناسبات ، الأمر الذي يجعلها تبدو أكبر منه سنّا بمراحل طويلة.
جدار خشبي تتخلّله ثقوب وفتحات، هذا مايفصل بيتي عن بيته، جدار يرتفع بمتر ونصف، ويمتدّ لعشرة أمتار، جدار موضوع بشكل جميل، تعتلي بعض مساحته أشجار مطرّزة بزهور زاهية الألوان أغلبها في جانب حديقتي أنا، ( مايك) جاري يحبّ الأشجار التي تُثمر ولايهتم كثيرا للزهور وأشجار الزينة، وهذا الجدار الذي هو بمثابة ناذفتي للتواصل مع جاري يُتيح لي فرصة مراقبته وهو يتحرّك ذهابا ومجيئا في الحديقة الخلفيّة، حيث يقوم بأعمال كثيرة لاتنتهي، فهو يهتمّ بالحديقة بشكل مبالغ فيه من حيث تقليم الأشجار - التي هي أنواع مختلفة من الفاكهة - وتطعيمها بطرق علميّة محترفة ، كذلك يقوم بتنظيف الأرضيّة وصبغ الجدران ورِشّ المبيدات والأسمدة بدون توقّف على مدى فصل الصيف. استطاع أن يبني مخزنا كبيرا في زاوية الحديقة في الجهة المطلّة على الغابة التي تشغل خلفية مساحة بيوتنا في تلك المنطقة، وهذا المخزن المُحكم يبدو وكأنه يحتوي على أشياء سريّة يحرص ”مايك“ على عدم إقتراب أحد منه. يقوم بكلّ تلك الأعمال وهو يتطلّع بحذر إلى بوابة البيت الخلفيّة التي تواجه الحديقة، حيث تراقبه زوجته على الدوام.
سمعتهُ يشتكي لأحدهم من قسوة هذه الأيام،يقول:
( قنطتْ حياتي، وسأموت من الركود في البيت)
حيث أُحيل للتقاعد، وصار لزاما عليه المكوث في البيت بصحبة زوجته التي تقاعدتْ قبله منذ سنة، وعندما قال - زوجتي- شعرتُ به وقد عصر الحروف بنبرة ألم وتغيّر صوته وكأنه سيبكي.
يكلّم نفسه كثيرا، ويستمع لغناء غريب، غناء إيطالي مُعتِم، كأنه نواح ”سلمان المنكوب“ مصحوبا بآلات موسيقيّة كثيرة ونشيج ”كورال“ مُرعب، تتداخل الأصوات، لتنبّثق عنها لوعة عظيمة تُشبه خروج الروح من الجسد.
مضى على وجودي في هذا البيت أكثر من خمسة أعوام، لم اتحدّث لجاري بأي موضوع، لكنّنا سبق وأن تكلّمنا بعض المرّات دون مناسبة، فقط عندما أراه وهو يزيح الثلج من ممرّ البيت الأمامي في فصل الشتاء، أكون حينها مُنهمكا بنفس العمل، فينظر صوبي ويحيّيني مُبتسما وهو يردّد بعض الكلمات عن الطقس، اشاطره الرأي ببضعة كلمات، ولا نخرج عن الحديث هذا الّا ما ندر، وخاصة آخر مرّة حيث أبلغني بحصوله على أوراق التقاعد النهائيّة.
كنتُ حذرا في تعاملي مع جيراني ومعارفي، ولم اعقد أيّة صداقة مع أيٍّ منهم، لا احبّ مشاركة أمور حياتي مع الآخرين مهما كانتْ صلتي بهم.
ذات يوم، أثناء عودتي من العمل، وجدتُ طردا بريديّا على شكل صندوق مكعّب بحجم يتجاوز المتر إرتفاعا، وبعد قرائتي للمعلومات عليه، تبيّن إنه يعود لجاري“مايك“ وصل لبابي عن طريق الخطأ.
خطوتُ نحو بيته وطرقتُ الباب، لم يكن في البيت، كذلك زوجته، عدتُ ومعي الصندوق الذي كان ثقيلا وعليه رسم لمنشار كهربائي يُشبه ذلك الذي في محلّ القصاب الأفغاني صاحب محل - لحم حلال - الذي عودتْني على الشراء منه زوجتي قبل اختفائها . ظلّ في ذهني تساؤل طبيعي، تُرى هل سيقوم ”مايك“ بتقطيع زوجته؟
في المساء حملتُ الصندوق وطرقتُ الباب، خرجتْ زوجته الضفدعة بهيئةٍ شاحبّة مزرقّة، مرقّطة بآثاليل داكنة على إمتداد ساعديها العاريين ووجها العابس، حيّيتها مُبتسما وبي رغبة للقيء، قدّمتُ لها الصندوق، تناولتْه ُ، وأغلقتْ االباب، بقيَ صوتها ينقّ في رأسي طوال الليل، ليتها لم تقُل : شكرا.
مضتْ الأيام وأنا أنتظر اختفاء الضفدعة.
مازال جاري يمارس أعماله اليوميّة، ومازال صوت الموسيقا الكئيب يتصدّر المشهد وصوت زوجته ينقّ صارخا بين حين وآخر، ليفرَّ راكضا ملبيّا ماتطلبه بسرعة .
تعبتُ من التفكيّر بجاري المسكين، وصرتُ أرى به كلّ ماتعرّض له الرجل من ألم إبتداءً مِن ”آدم“ إلى ”مايك“، وتحوّل موضوع جاري هذا إلى كابوس يلازمني في كلّ لحظة من يومياتي.
حاولتُ مرارا أن أترك موضوع جاري وزوجته، وقرّرتُ ان لا اراها بهيئة ضفدعة، لكنني صُدمتُ حين وجدتُ أن كلّ مافيّ من أشخاص يصرّون على أن لابد لهذه المرأة الضفدعة من ترك هذا الرجل الطيّب ”مايك“ وإطلاق سراحه ليعيش بحريّة وسلام من دون سلطتها وصراخها الدائم عليه، وأن صورة الضفدعة هي أسلم وأصدق تصوير لها.
قرّرتُ أن اكسر عزلتي، وادعوه لجلسة شواء في الحديقة الخلفيّة من بيتي.
تنتابني رغبة كبيرة في مساعدته، وتسيطر عليّ فكرة الشعور بالذنب لأنني لا اقوم بمساعدته بشكل حقيقي وعملي.
في لحظة إنهماكه في العمل،ومن خلال السياج، قلتُ:
كيفك صديقي.
حيّاني واقترب مُبتسما، قلت:
ما رأيك أن تشاركني حفلة شواء مع بعض البيرة، هذا المساء؟.
نظر إليّ مُندهشا وكأنّه يقول:
(لا، لا، لا أريد قتل زوجتي).
تراجع، وأشار بيده، أن انتظره بعض الوقت، عاد مُبتسما، وكأنّه حصل على الموافقة منها.
كان المساء رائعا، حيث النسيم العليل يداعب الموسيقى الهادئة، وكنت قد اعددت بعض أنواع اللحوم مِن بقر وغنم ودجاج مع جملة أنواع من البيرة المثلّجة، كذلك وضعتُ طبقا كبيرا من الخضروات المنوّعة المنقوعة بزيت الزيتون وخلّ التفاح وعصير الليمون، كانت المائدة مُغرية، وكانتْ ماكنة الشوي تطلق دخانها المغموس برائحة تفتح الشهيّة للاحتفال.
حضر جاري، سبقته ابتسامته وهو يلوّح بقنينة كبيرة من الـ ”فودكا“.
بدأنا ببعض البيرة مع القليل من المجاملات حول حياة الأسرة والبيوت والصداقات، لم نكن مُقتَنِعَين بكل ما قلناه، وكان صاحبي يسحب كلّ المواضيع للنكتة والسخرية وذلك للهروب من مواجهة حقيقة الأشياء ومرارتها.
مضى الوقت سريعا، وكنّا قد اجهزنا على أغلب القناني من البيرة، ثم اختفتْ بعدها مكونات قنينة الـ“فودكا“ وصرنا نتكلّم بشيء من الجديّة، قال:
أين زوجتك؟
قلتُ: لم نعُد مع بعض، انفصلنا منذ فترة بعيدة.
قال: للأسف، كنتما لائقيَن لبعضكما.
قلتُ: كيف؟
قال: جميلان، مُتشابهان، قريبان في العُمر.. كنتُ أحسدكما على الأناقة والذوق.
قلت: هل كنتَ ترى ذلك فعلا؟
قال: طبعا، أنت رجل هادئ وطيّب و….. !
قلتُ: و… ماذا؟
قال: نسمع بعض الأحيان صراخ زوجتك، يالهي، كان لايُصدّق .!
قلتُ وأنا اضحك: لم تعُد تستطيع فعل ذلك.
قال: كيف، ولِمَ ؟
قلتُ: لكونها لم تعُد معي.
ضحك ضحكة قويّة جدا، وضرب يديه على بعضهما صارخا:
نعم، ياصاحبي،أنت رجل ذكي، حقّقتَ هدوءك ببساطة على مايبدو.
قلتُ: كلّ شيء بسيط، فيما إذا أردنا له أن يكون.
نظرَ إليّ كالطفل،قال:
كيف؟
قلتُ: هل تشعر بالهدوء الآن؟، هل تشعر بمدى روعة الموسيقا؟، هل تسمعني وأنا احاول جعل نبراتي تتناسب ومسامعك من خلال تركيزي في فهم مزاجك؟
هل تستوضح مدى الغبطة التي نحن بها ونحن نتكلّم دون عارض قبيح يقف بيننا؟
بدتْ عليه الدهشة، وصار كأنّه سيبكي، قال: ماهذا الكلام يارجل؟، كأنّك سحرتني بهذه العبارات التي ذابتْ في راسي مع هذا الخمر اللعين، ثم ضحك بصوت عال محاولا تسخيف الأمر مرّة أخرى، لكنني قطعتُ عليه الطريق، قلتُ:
الأمر أبعد من ذلك، أنتَ جاري، نحن نعيش في هذه البقعة المتقاربة التي تحيطها المياه الراكدة المليئة بالضفادع، هل تزعجك الضفادع بأصواتها الغبيّة؟.
قال: امممممم، نعم، هي فعلا مُقرفة.
قلتُ: هل فكّرتَ مرةً للإنتقام منها لما تتسبّبه لك من إزعاج؟.
قال ضاحكا: كنتُ انزعج كثيرا، لكنني لم افكّر بالانتقام.
قلتُ: لِمَ؟
قال: لا اعرف.
قلتُ: هل تجد من فرق بين صراخ زوجتي،ونقيق الضفادع مِن حيث الازعاج؟
قال: يارجل، ماهذه المقارنة؟.
قلتُ: ما الفرق؟
قال: زوجاتنا لسن ضفادع يارجل.
قلتُ: مَن يزعجك أكثر؟
قال: الحقيقة ،، لااعرف.
قلتُ: كانتْ الضفادع تزعجني في مواسم التكاثر، فعملتُ المستحيل لإبادتها، وضعت الكثير من السموم في أماكن تواجدها، قضيتُ على الكثير منها، لكنها مازالتْ موجودة وتمارس عملها الحقير، وكانتْ زوجتي تنقّ بمسامعي على مدار السنة، واختفتْ بغضون أيام بعد قراري، لكن زوجتّك ظلّتْ تمارس هذا النقيق وكأنّها تعاندني في شغل فراغ زوجتي التي لم تعُد هنا لتمارس تلك المهَمّة السيّئة.
نظرَ إليّ بغضب وقال: زوجتي أنا؟
ضحكتُ ضحكة قويّة مُحاولاً تسفيه الأمر، وقلتُ:
يارجل النساء عبارة عن ضفادع لاتتوقّف عن النقيق.
شاركني الضحكة، لكنّه بقي مُتلكئاً في نطق بعض الكلمات، كأنه بدأ يفهم ما أرمي إليه.
قال: زوجتي صارمة وعنيدة، لكن، ماذا أفعل؟،،
وجدتُ نفسي معها، دون أطفال، دون علاقات مع الآخرين، هي لاتحبّ الناس.
قلتُ: هي تحبّكَ؟
نظر إليّ باستغراب، قال:
طبعا.
قلتُ: كيف، طبعا؟
ضحك، وهرش فروة رأسه:
لا أدري، نحن مع بعض منذ أكثرمن اربعين سنة، لم نختلف …. و …
قلتُ: هل هذا دليل حب؟
قال: لاأعرف.
قلتُ مُشيرا لظلام الغابة خلف سياج بيتي:
هل تعلم ما الذي يجري هناك؟ في هذه الغابة، الحيوانات الكثيرة التي تفترس بعضها لمجرد البحث عن الشعور بالرضا، الكائنات تتقاتل لأجل الفوز بتحقيق مشاعر معيّنة، لِمَ نختلف عن عوالم تلك المخلوقات؟ الّا يجدر بنا أن نحقق ما تتوخّاه مشاعرنا مِن راحة وهدوء وإستمتاع كما تفعل موجودات الأرض بدبيبها المتواصل؟.
شعرتُ به يتنفّس بصعوبة وقد اعتراه الرعب، قال:
لا أفهم شيئا مما تقول.
قلتُ: صدّقني لو ذهبتَ الآن وبحثتَ، ستجد الكثير من جثث الضفادع مدفونة في ظلام تلك الغابة، لهذا يشتري بعض الأزواج منشارا كهربائيا لتسهيل عملية النقل والدفن، فبعد تقطيع اللسان والأطراف، ستكون عمليّة الدفن سهلة ومُسليّة.
وقفَ فَزِعاً، وقال:
لا، لا، لاأفعل ذلك، أبدا، ”فرناندا“ ليست ضفدعة، أرجوك.
قام مُترنّحا، مَسكتُهُ من يديه وصرتُ اضحك، شاركني الضحكة، قلتُ:
شكرا جاري العزيز على هذه الجلسة الحميمة، لقد مزحنا كثيرا هذه الليلة،طاب مساؤك، وتُصبح على خير.
مرّ الوقتُ ومضت الشهور، لم اعُد ارى جاري ”مايك“ ولم اعُد أسمع أصوات ضرباته وتحرّكاته وهو يمارس عمليات الإدامة في بيته، كذلك لَم اعُد اسمع صوت الضفدعة القادم من شبّاكهم المواجه للغابة.



Share To: