.                       محمد فؤاد أبو بطة

 
أرسلت لنا الأديبة الجزائرية المبدعة خولة محمد فاضل  (سحر القوافي ) سوط من سياط العذاب البشري والذي يفوق سياط زبانية جهنم لأن رب هؤلاء الشيطان الذي يكن في نفسه كل الحقد للبشر!
ليلة من الرعب والخوف والجحيم سطرتها أحرف الكاتبة بمقدمة تلهث الأنفاس وهي تتابعها دون توقف وكأنها تريد ان تنتهي منها لتتخلص من عذاب النفس!
كلمات غاية الدقة في الاختيار ووصف رائع لموقف تشيب له الولدان!فلا تنسي الكاتبة قاموس مفرداتها الثري بالمصطلحات والإشارات فتصف لنا مقدمة تتفوق علي المقامات الخالدة فتقول
(تناثرت أوراق الخريف على أضرحة السنين التي عشناها ،وعبثت خفافيش الظلام بسقياها.. ووأدت أحلامنا في قعر النسيان واقتلعت من أرواحنا جذور الياسمين والنرجس وخنقت أنفاس الفجر وضحكات الأطفال في أفئدتنا الكلمى .. تلك السنون التي حفرت في الذاكرة ندوبها الغائرة.. المٱسي التي غلفت الٱماسي وأغرقتنا في وهاد الظلام والوجع.. مازالت تعربد في الذاكرة تشوش مشاعري وتعبث بخواطري .. تحاصرني ظلالها الحارقة ،فيلازم الكمد نبضات فؤادي وشهقات أنفاسي.. ما تركت مني سوى الدخان والرماد الذي لهت به عواصف الأسى وجرفته سواقي الدماء.. والناس حولي أشباهي ؛ هياكل خاوية من الحياة .. أوثان  يدب فيها السقم والفراغ والجوع والوهن ويعبئها الصقيع والشجن.. ومازال نعيق الغربان يجلجل في الفضاء وجحافل الظلام وخفافيش الشؤم تملأ السماء.. مازلت التفت حولي فأجد ظلي لاهثا من عبء الحمل وأكداس الأشجان والحرمان التي أجرها من زمن القحط وسيول الأنين ترسمها خطواتي.. مازلت أحاول عبور عباب الواد والوصول إلى جسر الٱمان بلا جدوى.. أفتش عن موضع ٱمن لأقدامي لكن معابر التيه والسراب تضلل نظراتي وليلة الفرار عالقة بذهني ترفض العفاء والسلوان وتعيد نسخ نفسها ونسج أحداثها .. دوامة وجع تحوم في ذاكرتي فتبعثر ما تبقى من وهج في أعماقي وتجفف معين الٱفراح.. يباغثني كابوسها ويحف ليلي بأطياف غريبة تمتهن الجنون وتدق مساميرها الملتهبة في كل مسامات روحي المفزوعة من هول المشاهد وركام الذكريات الصادمة وشلالات الدماء الدافقة من الرقاب المنحورة والرؤوس المبتورة على مذابح السلام تثر حولي وتعبر شوارع عمري.. وعلى فراش الصقيع والقتاد المسنون أتوسد الرزايا والمحن لأفقد وعيي من روعة الألم .. إغماءة لا أفيق منها إلا على خيالات كابوس جديد أظنه يوما ٱخر أو واقعا مغايرا ألجه.. تلك الليلة الدامسة التي امتدت لأزمان وأزمان وتشرشت في روحي حد الإدمان ،تترنح سكرى في الوريد والشريان .. ليلة الجحيم الأولى.. بوابة القيامة البكر.. كل الأبواب قد غلقت في زمن العربدة والعهر والقهر والروح حطام عالق بمسافة.. قرار إبليس قد صدر في حقي وأقام المقامع والأصفاد ليحتفي بصلبي  وشنقي.. ليتلذذ بأوجاعي ويزهق روحي التي فضحت خباياه )
مقدمة رائعة رغم بشاعة الحدث وكأنها تستخدم حروفها لتعبر بنا وادي التيه والألم والخوف!
كاتبة تبتكر الألفاظ واستخدامها وكأننا لم نقرأها قبل ذلك في نصوص تراكمت عليها سنوات الغبار!وكأنها تحيي حروفاً موتي وتعيد قيامتها!
لا يملك القاريء أي إختيار سوي أن يلتهم الأسطر ويروي ظمأ الروح للحروف ليفر من جحيم البشر
فتقول الكاتبة لتصف وحشية الإرهاب وضآلة فكره وحيله! فالإرهاب والقتل وسيلة الضعيف في مواجهة النور والفكر!فالإرهاب ظلام وإظلام لا يستطيع مقاومة نور العلم والفكر فلا يجد غير القتل وإراقة الدماء وسيلة لطمس هذا الفكر وذاك النور!
تقول الكاتبة في نص ثري
(الزائر الغريب يطرق الباب بدقات متسارعة كأنما يستعجل القدر أو تطارده أياد الغدر..كمن يفتش عن وزر ينجيه .. 
قفز والدي من مكانه ودس خنجرا تحت سترته واستعاذ من كل شيطان رجيم واتجه نحو الباب بينما تجمدنا في أماكننا وعقدت الدهشة ألستنا وسأل :
من الطارق ؟!
فأجابه صوت مرتعد: هذا انا عاشور ياعم محمد،افتح الباب ،عندي لكم رسالة عاجلة ..
فتح والدي الباب بحذر وأدخل الطارق الذي كان يلهث ويتصبب عرقا  وهو يقول: خيرا يا بني..
فقال الزائر  بصوت متهدج فيه نبرات الحسرة والتأسف: إن الأمير مصعب أمير كتيبة سارية الخلاص قد أصدر حكمه في حق ابنتكم الصحفية خولة لأنها لم تتخل عن وظيفتها والكتابة،وسيمر لأخذها ويتم الاستماع إليها لتعدم أو لتأخذ سبية مدى الحياة أو تحرر  بدفع فدية والاحتمال الأخير ضعيف..لقد أرسلني في مهمة قريبة من هنا فاستغليت الفرصة وخاطرت بحياتي لتحذيركم فأنتم من أقارب والدتي..
نزل الخبر علينا كالصاعقة ،ولم أسمع بقية الحديث وارتميت في حضن أمي أحاول أن أطمئنها وقد اختلطت مشاعري بين الحقد والكراهية والتحدي والخوف والحيرة.. زخم متلاطم من الأحاسيس المتضاربة  أغرقني في هستيريا من البكاء بينما تملكت أمي موجة من النحيب..
استجمعت قواي بصعوبة و رحت أتفرس في وجوه إخوتي ووالدي الشاحبة ونظراتهم المفزوعة وقد خيم الصمت والوجوم على الجميع..
وفجأة تحدث أخي الأكبر: اجمعي ما أمكن من أغراضك يا أختي ،سنذهب من هنا حالا.
قفزت من مكاني وارتديت عباءتي وفي عجالى وضعت بعض الأغراض الضرورية في الحقيبة ..
ودعنا العائلة وتسللنا إلى السيارة
أدار أخي المقود  فانطلقت بسرعة فائقة ونحن نبتهل إلى الله أن يجنبنا حواجزهم الأمنية المزيفة المباغتة ،وفي بالي هاجت وماجت الخواطر السوداء ..وجل ماكنت أخشاه أن ينتقم أمير الكتيبة الضال من أهلي في هذه الليلة المشؤومة،وقد انتابني شعور قاتل حينما تمثلت أن صفحتي ستغلق وأن شبح المنايا بدأ يحوم حولي فأياد النحر القاسية تمتهن الجرائم الدموية البشعة في كل ركن وزاوية.. إنها لحظة فارقة بين الوجود والعدم.. بين الميلاد والوفاة.. أقصر مسافة بين الأرض والسماء وأطول مسافة وأشقها في حياتي كلها ،عندما تتحول الثانية إلى ٱلاف السنين ،وتتوقع النهاية عند كل نقطة تعبرها وتشعر أن الموت يطاردك حينها تفقد كل الأشياء معناها ماعدا الحياة..)
كم كاتب أو أديب يستطيع أن يصل إلي هذه الصورة رائعة الحرف مؤلمة الإحساس مدهشة الوصف رغم الفجيعة!
استطاعت الكاتبة المبدعة ان تطاول عمالقة المبدعين من جميع اللغات! لتصف لنا الثواني القليلة في كلمات وأحرف تجعلنا نشعر بثقل عقرب الثواني في ساعة الزمن الذي توقف أمامها وهي تصف لحظات الفزع والفرار من الموت إلى المجهول الذي ينتظرها!فلا ندري معها هل ستنجو أم تقع فريسة بأيدي الظلام؟!ولكننا نصارع معها ونحاول النجاة بها وقلوبنا تدعو الله أن ينجيها وينقذها من ظلمات الجهل والإرهاب إلى فضاءات الحياة والنور
وصف يتفوق علي الحدث فيخطف قلوبنا معها وهي تفر من خطر الإرهاب إلي عالم المجهول والمخاطرة!
وبعد أن تعبر بنا مرحلة الخطر وتصل إلي مأوى أقل خطراً من بيتها تشعر ببعض النجاة والأمل ولكنها تعيش القلق وخوف الانتقام من أبالسة البشر تلامذة إبليس الأكبر فتصف لنا هذه الخاتمة بحروف تفيض حسرة وألماً
(وما إن انبلج الصبح حتى شرع أخى في البحث عن شقة لإيجارها.. عثرنا على واحدة بسعر باهض دخلتها بينما عاد أخي إلى بيتنا ليصطحب العائلة والأغراض معه .. ليبدأ فصل جديد من عمري يعج بالوجع والحسرة والكمد والضباب ونزر من السعادة المهربة من براثن الدهر..)
لقد أبدعت الكاتبة سحر القوافي التي تستحق مكانة سامقة في عالم الفكر وسماء الأدب.


                        خولة محمد فاضل









Share To: