ركلت الأقدام الصماء الرأس المقطوع الدامي بكل وحشية وهمجية وقذفت معه روح علي تذروها رياح الجنون في غياهم الوجع القاسي. 
_ إنها تمطر دما..أمي إنها تمطر دما..
كانت صرخاته المرتجفة تهتز لها الأفئدة وتنفطر وتسح العبرات وتنهمر..جمرات تكوي الأرواح الطاهرة وصداع يدمدم في الرؤوس..
_ بحق السماء لا تقل شيئاً كهذا بني..إنه مجرد وابل من مطر يروي الأحياء ويمحق الظمأ ويطهر التراب من الرجس..
_ لا يا أماه انظري..المطر أحمر قاني اللون..إن السماء تمطر دما..ألم تشتمي رائحته..
_ إنها رائحة التربة المرتوية تثر فيها الحياة..
أرسلت الأم تنهيدة من عمق جراحها الملتهبة وقلبها المتصدع من الأسى والكمد وقد أدركت بحدس الأمومة أن ابنها قد أصابه الخبال منذ تلك الواقعة المريرة، المشهد الصادم الذي عاشه فأعاث فيه فسادا..حجب عنه الحياة والضياء وحفه بالعتمة والألم فلم يعد يبصر غير الشرور تحاصره من كل المنافذ..يتوهم كل الوجوه التي تطالعه أقنعة يختفي خلفها المجرمون..كل الأياد ٱثمة ملوثة بدماء الضحايا..مازالت روحه حبيسة اللحظة المريعة التي توقف عندها زمنه وما زال ضالا في غياهب متاهتها..
 كان عائدا من الثانوية إلى البيت رفقة صديقه مصطفى حينما استوقفتهم عصبة إرهاب ..
_ هات بطاقة هويتك..
كاد قلبه ينزلق من بين أضلعه من شدة الهلع..إنه يسمع طبوله تدق في عنفوان..
_ لا أمتلكها بعد، أنا طالب ثانوي دون سن الرشد..
استدار الإرهابي إلى مصطفى 
_ من أنت؟!
تلعثم الولد من شدة الوجل وهو يعرف بنفسه..وقد أخذ جسده يطفح عرقا وزادته زخات المطر المتساقط على وجهه بللا..وما إن سمع الإرهابي لقبه حتى استدار إلى رفاقه:
إنه ابن الطاغوت عدو الله..ابن الصحفي الحلوف لعنة الله عليه..ابن الكلب كلب..
 تسمر الولد مكانه، شاحب الوجه ترتعد فرائسه وأدرك بحسه أنه في ورطة لا مناص منها أو أنه لا محالة هالك..
وتحدث أميرهم الذي كان يرتدي زيا أفغانيا ويعقد على رأسه شريطا أسودا..
_ اعصب عينيه وقيد يديه خلف ظهره وقربه إلي..
أشهر الأمير السفاح سيفه وضرب رقبة مصطفى بكل عنفوان وحقد، فطار رأس الشاب بعيدا عن جسده وفاضت روحه لتحتل جسد علي الذي سكنت روحه جسد مصطفى..
لم يتحمل الشاب اليافع  المشهد الصادم الدامي فأغمي عليه لبعض الوقت، ولما فتح عينيه وجد الإرهابيين يركلون رأس صديقه..يتقاذفونه كالكرة بين أقدامهم، فغرق في نوبة هستيرية من العويل والصراخ، وأطلق رجليه للريح قاصدا البيت تحت وابل من مطر، وهو يتوقع الموت عند كل خطوة..وفي كل نفس يترقب رصاصة الغدر تخترق ظهره أو رأسه..كان في الحقيقة يعدو بلا روح ولا أمل والموت يلاحقه كظله، ولم يكن بمقدوره أن يلتفت وراءه فربما رأى الأفظع..الموت القادم من الخلف..والخيط الزمني بين الموت والحياة يتلاشى كالدخان ومعه سراب العيش..كان يعدو بأقدام من ريح كطيف هارب من الضياء..وقد طالت المسافة حتى بدت له أمدا..ولما بلغ  باحة البيت وهو يصرخ قتلوه ذبحوه، لعبوا برأسه..خارت قواه وسقط مغشيا عليه..
كان ضجيجه يجلجل في أذني والدته التي أسرعت إليه وبيدها منديلا مضمخا بالعطر..مسحت به وجهه ثم وضعته عند أنفه بغية إفاقته، وبين شفتيها ضاعت الكلمات بعدما تملكها الذهول والحيرة..غير أنها رفعت يديها تسأل الله نجاة ابنها وتضرع إليه أن يحفظه ويمنحها الصبر والعون لتتجاوز هذه المحنة..
أفاق علي وهو في حالة هذيان مستمر..يدور في دوامة حمراء..يردد ذات الكلمات في حالة هستيريا وفوضى حواس وألوان وإدراك وبكاء وارتياع..وكان يتصبب عرقا ويرتجف وقد احمرت عيناه وحدت نظراته.. مفزوعا يتفحص ماحوله في كل حين وفي كل اتجاه، كأنه يفتش عن شيء مجهول أو يترقب خطبا مباغتا..
تلك اللحظة لم تفارقه أبدا..مازال حبيسا فيها..مشدودا إلى عالمها المأساوي لا ينعتق منه أبدا..وما زالت تلك السيوف والبنادق والرشاشات تحاصره في يقظته ونومه..كابوس يطارده..مشهد السيف يهوي على رقبة صديقه مصطفى..الزمن عنده توقف في سن السادسة عشر ولم يتجاوزها بعد رغم بلوغه سن الأربعين.. صورة الإرهابيين بزيهم الأفغاني ولحاهم الطويلة تنبعث من أجسادهم  رائحة نتنة وعلى أكتافهم انتصبت مقامع الموت لا تفارقه أينما حل وفي كل لحظة.. يطاردونه عند كل شهقة.. إنه مازال يقبع في غياهب زنزانتهم الدامسة تحفه الأشباح المرعبة والكوابيس المهولة.. مازال لم يستيقظ من كابوس اليقظة.. لحظة المأساة التي لا يستفيق منها أبدا تلازمه كأنفاسه وتسري في وتينه وتحيا في خافقه.. كثيرا ما يشعر علي بالعطش غير أنه يمتنع عن الشرب لأنه يخال الماء دما وتمر عليه أيام لا يأكل فيها قط عندما يتوهم الطعام رأس صديقه.. لا يثق في أحد حتى والدته.. ينفر من الجميع ويعيش في اغتراب روحي رهيب يخيل إليه أن كل الوجوه أقنعة يحيك أصحابها المؤامرات لاغتياله وتسميمه.. يرى في أيد بعضهم السيوف والخناجر أو يتوهمها تمتد إلى رقبته لتكسرها وتخنقه، فيهرول ليلج غرفته ويغلق النوافذ والأبواب ولا يتوقف عن الضجيج إلا إذا غلبه النعاس الذي عادة ما يحصل بمؤثرات عقلية ومهدئات.. إنه أشبه بميت يسعى..يرزخ في أصفاد الذهول والغيبوبة..حبيس تلك الإغماءة التي وأدت فيه الحياة..متاهة مشهد قطع الإرهابي لرأس صديقه بعنفوان فتطاير بعيدا لتركله أقدام الوحوش وهو ينزف دما قطع معه حياة علي وغمر روحه بالتراب..
وري جسد مصطفى في الرمس ومعه روح علي بينما سكنت مهجته جسد علي الذي طالت سكرات موته ليعيش عذابا وحشيا ويظل معلقا بين الحياة والموت في دوامة دامية، ولم ينفع حاله الأطباء ولا الرقاة..
  ما زال المطر يهطل على علي بغزارة وهو يصرخ ويستصرخ
أمي إنها تمطر دما..
المشهد الصادم دوامة تتوسط الفضاءات وتحوم في ذاكرته بلا هوادة وليس ثمة فرق عنده بين الإقدام والقهقهرى..فالدهاليز ممتدة بلا شموع وغربة الروح تحجب عنه نور الشمس وتقبره في العتمة، وزمنه توقف عند بؤرة الردى الصامت وغيابات التهيان في الخواء..لحظة الفراغ والتهاوي في وهاد الجنون ..حينها فقد الإحساس بكل ما حوله ورأى واهما السماء تمطر دما..فما تبقى من علي إلا ذاك الوجع الدنف وسكراته غصة تزلزل الفؤاد وترتج منها الذاكرة..هذا الفراغ الدامي الشرس الذي أحكم شركه عليه واستوطن هواجسه فتاهت خطواته في دهاليز حالكة ..





Share To: