.                           د. محمد حجازي 


فضاء النقد :
========
النص:مولد القصيدة 
                     
وقالتْ: حطِّمِ الأسْوَارْ
 لِتَدخُلَ قلعَةَ الأسْرَارْ

فَطِرتُ بِكلِّ ما في القلبِ
 مِنْ شَوقٍ، ومِنْ إصرَارْ

أُعلِّقُ في نوافذِها
 عناقيْدًا مِنَ الأقمارْ

هُنالِكُ حيثُ ينصهِرُ
اللُجَينُ البِكْرُ بالأنوارْ

تلوحُ غزَالةً بيضاءَ
 عاريةً وراءَ سِتَارْ

وحينًا مُهْرةً سمرَاءَ
فوقَ جزيرةِ الأفكارْ

أُطارِدُهَا... لأركَبَها
فيَأبَى غُنْجُها المَكَّارْ

وصارَتْ في فضَاءِ الخَلْقِ
أدخِنَةً.... وبعضَ غُبَارْ

فعُدتُ وفي يدي الإزميلُ
أرفَعُ طِينَها المُنْهارْ

نحَتُّ الحُسْنَ تِمثَالًا
خُرَافيًّا.... بغيرِ إزارْ

مِنَ الأموَاجِ سَطوَتُهُ
ومِنْ همجيَّةِ الإعصَارْ

ومِنْ عدَميَّةِ الخَشْخاشِ
مِنْ صُوفيَّةِ الأشْجَارْ

نفَخْتُ الدِّفءَ مِنْ قلبي
ومِنْ شَبَقي نفخْتُ النَّارْ

وقلتُ: الآنَ.. كُونِي الآهَ
 في تغريدةِ المِزْمَارْ

وكُوني اللحنَ حينَ تَحُطُّ
فوقَ نوَافِذي الأطيَارْ

وكُوني البوْحَ عنْدَ الفجرِ
حينَ يُزقزِقُ النُّوَّارْ

وكُوني الطُّهْرَ في لَيْلَى
وكُوني العُهْرَ في عشْتَارْ

فطَارَتْ وهْيَ تضحَكُ لي
كذلكَ تُولَدُ الأشْعارْ

علي عمران الشاعر المتفرد صاحب الصوت الذي لا يشبهه صوت..
 في هذا النص الذي يلبس ثياب القديم من حيث الوزن الشعري الموحد والقافية الموحدة، ولكنه يبحر في عالم الحداثة...
 (مولد القصيدة) هذا العنوان بما يحمله من شحنات إبداعية ودلالات ثورية، كفيل بأن يجذبك جذبا إلى محتوى الرسالة الإبداعية.. فقد استولى عليك عمران من أول كلمة من خلال الانحرافات الدلالية للغة المعيارية المتمثل في الخروج عن مألوف اللغة إلى اللغة الشاعرة من خلال الصورة المشهدية وتأطير المشهد في الصورة.. صورة الولادة لشيء لا يولد.. وهو ما يدهش المتلقي ليواصل القراء والاستمتاع بالمحتوى.
        وروعة سيميائية العنوان تكمن في القدرة على صناعة العنوان بما تحمله القصيدة كلها من محتوى وشفرات..
 ويبدأ الشاعر النص ب. وقالت :... وهذا مفتتح للقصيدة يدل على على أن عمران يعي جيدا ما يفعل... يعي جيدا قيمة الكلمة وأين يضعها وكيف يضعها... فتصدير النص بجملة وقالت :.. تجعل المتلقي شغوفا بما قالت.. مشدودا لمعرفة ماذا تقول... لتأتي جملة حطم الأسوار لتدخل جنة الأسرار لتريح المتلقي.. وفي ذات الوقت تدهشه وتدخله في عالم من الحيرة ويجد نفسه مسحوبا لقراءة النص.؛ ليعرف ما هذه الأسرار...لتسير القصيدة بعد ذلك في خيط درامي وهو في الحقيقة منلوج داخلي... استخدم فيها الشاعر التقنيات السينمائية..
فنجد( السيناريو) الذي يعتمد على على نظام يتكون من بدايات ونهايات ومواضع وحبكة ولقطات ومؤثرات... تتشكل من مشاهد متتابعة ومتباينة، وتعتمد على اللقطة التي ترتبط بخيط دلالي مع اللقطة السابقة لها واللاحقة بها، وهذا الخيط الدلالي الذي يربط مشاهد القصيدة ولقطاتها جميعاً هو عنوان وحدتها العضوية التي صارت مع انفراط منظومات الدلالة ـ تتشكل بطرائق جديدة أكثر خفاءً وأشدّ إيغالاً في النص مما كانت عليه، بحيث تنتهي المشاهد إلى شريط شعري يقابل الشريط السينمائي...
 وهذا ما تعامل معه علي عمران من أول لقطة في القصيدة إلى آخر لقطة فقد كانت اللقطة الأولى :
وقالت : حطم الأسوار
لتدخل قلعة الأسرار
وهي اللقطة المحورية في النص والتي من شأنها أن تخدم عنوان النص ( مولد القصيدة)... وصولا إلى اللقطة الأخيرة في النص :
فطارت وهي تضحك
  كذلك تولد الأشعار.
  وهي لقطة النهاية التي بها ينتهي المشهد ويسدل الستار.
ومن التقنيات السينمائية التي استخدمها عمران تقنية (المونتاج أو التوليف) وهي تقدم شذرات من عوالم مختلفة يتم قطعها ولصقها بإيقاع محسوب ، وهي غالبا شذرات متخالفة في الزمان والمكان ، لكن صوغها في سبيكة قولية واحدة ، وإدراجها في أنساق متعاقبة بهذا الشكل دون سواه ، وهو المكون لبنيتها الجمالية.
 وهذا ما قام بعمله علي عمران في النص.. إذن إن كل بيت في النص ما هو إلا عالم قائم بذاته من حيث الزمان والمكان والتأثير المشهدي.. غي أن هذه العوالم المتباينة يجمع بينها خط دلالي واحد يجمع أطراف النص؛ ليصنع من خلال ذلك المشاهد الكامل أو لنقل اللوحة الكاملة أو القصة الدرامية الكاملة.
التقنية الثالثة ( عين الكاميرا) حيث يتم من خلالها التركيز / التبئير Zoom in   على أحد عناصر المشهد الشعري الفاعلة في لحظة زمنية معينة ، ثم تأخذ عين الكاميرا في الانفراج – الكدر – شيئا فشيئا بحسب حالة الشاعر النفسية ، والمتلقي يتابع حركة الكاميرا ما بين القرب والبعد مشاركا الشاعر توتره النفسي...
ويتجلى ذلك في قوله :
تلوح غزالة بيضاء
 عارية وراء ستار
   وحينا مهرة سمراء
  فوق جزيرة الأفكار
فتارة تتجه عدسة الكاميرا لتركز على هذه الغزالة بما تمثله من النقاء والطهر.. وتارة أخرى تدور عين الكاميرا لتركز على المهرة العنيدة ليركز عليها الشاعر ويجعلها هي بؤرة الاهتمام.. ليمكن صورتها في ذهن المتلقي.
وبعد
 فالنص في مجمله نصا مفتوحا على تأويلات وقراءات شتى... وهذه ميزة من ميزات النص الجيد... والذي استطاع من خلاله علي عمران أن يجسد حالة من الثورة على التقاليد والموروثات البالية.. من خلال البحث عن الذات وسط الفوضى والهمجية.
والنص يثبت مدى تمكن علي عمران من أدواته الشعرية لغة وصورة وتراكيب وأساليب وصياغة.. كما أنها تؤكد على وعيه التام بتأثير الصورة البصرية والمشهدية.
أخيرا... هذه فقط مجرد إضاءة موجزة للنص... وليست قراءة لكل ما يحتويه النص من دلالات وإيحاءات وإسقاطات... قد يكون لي معه وقفة أخرى في وقت لاحق.

       
                             علي عمران

                        



Share To: