بما أن التراث متغلغل فينا كأي شعب من الشعوب، إضافة إلى استمرار هذا التراث الذي يتشابك مع القيم الدينية والروحية، وهي تتجلى في العادات والتقاليد فلا بد من إعطائه أهمية، وعدم التخلي عنه كما ينادي البعض، فللشعوب ذاكرتها الجمعية لاسيما إذا كانت موغلة في القدم.
ولذلك نحن أمام مهمة ليس في نقل التراث واستمراره كما هو بل في تجديده، وإحيائه بإسقاطات معاصرة وبروح معاصرة، وتقريبية إلى ذهنية المتلقي وخاصة إذا كان طفلاً، وجعله محبباً ومترابطاً مع حاضره.
إن أدب كل شعب من الشعوب هو لاشك مرتبط بالبيئة، وكذلك العقلية التي تحكم هذا الشعب، وهذا إلى جانب العادات القديمة الموروثة، وأنماط الحياة فيها.. فمثلاً في بلاد الثلوج نجد الأدب الشعبي يحث على الإقدام والمغامرة، والصبر على قسوة الطبيعة، وتعاطف الناس مهما كانوا في زمر صغيرة. والقصص في مناطق الجفاف في العالم ترتكز على التجمعات البشرية على شكل قبائل، وتهدف إلى التوسل للطبيعة والدعاء للمطر، والاهتمام بالمواشي والعطف عليها، واستخراج خيرات الأرض، حتى إلى درجة عبادة هذه الظواهر الطبيعية. وفي بلاد الزلازل والبراكين يتسم الأدب الشعبي بالحذر والخوف من المجهول، ومضاعفة جهود الإنسان فيها لمواجهة الصعاب. أما البلاد التي تفصلها الصحارى كالبلاد العربية، وتبتعد فيها التجمعات البشرية واحدة عن الأخرى فإنها تشجع على قصص الفروسية، والقوة الجسدية، والشجاعة، والكرم، وإغاثة الملهوف، الخ...
ولاشك أن الركيزة الأساسية التي تقدم للطفل من خلال الحكايات إنما تعتمد هذه القصص الشعبية بالدرجة الأولى، لكن الانفتاح بين الشعوب الآن، وتواصل الحضارات، وتطور وسائل التواصل والاتصال ما جعل الباب مفتوحاً أمام الطفل لتقديم القصص الشعبي له من أمم أخرى، فتترك في نفسه هذه القصص متعة مزدوجة لأن فيها الغريب والمجهول، كما فيها المعلومة والمعرفة، وفيها خيال من نوع جديد، واطلاع على أمور لا يراها فيما حوله، لكن هذا يجب ألا يحصل على حساب القصص المحلي الذي يتعلق بجذور هذا الطفل، وبأمته، وموروثاته لأنه يرسخ القيم المختلفة، ومنها ما يتعلق بحياته العملية فيما بعد، فلا يكون ما هو دخيل على حساب ما هو أصيل، فمواجهة ذئب مثلاً قد تحدث في حياة طفل يعيش في منطقة جبلية من مناطقنا أكثر من مواجهة دب قطبي لأن هذا الحيوان بعيد عنه ومستحيل أن يصادفه. إذن فاحتمال وقوع الحدث الذي يتناسب مع بيئته هو من متطلبات الخطاب الواقعي.
الأدب الشعبي نبع غزير لكل أمة من الأمم، وأدبنا الشعبي يتمتع بالغنى والثراء وبالعمق أيضاً، فهو بحر واسع لا قرار له ومرتبط بالبيئة، والمناخ، وهو من أسس طوابع الشخصية، ومن الممكن جداً تبسيطه وإعطاؤه رؤية معاصرة، ومن ثم تقديمه للأطفال. ومن الممكن أيضاً عدم الاكتفاء بالقصص الشعبية الساذجة والبسيطة والتي لم تعد تنسجم مع العصر وفي هذه الحال يتم إغناؤها، وإعطاؤها بعض الرموز المعاصرة والدلالات التي تنسجم مع الوقت الحاضر.
وهذا الأدب أيضاً مجال رحب لإدخال القيم المعاصرة إليه حتى كأنها من نسيجه الأصلي، وكذلك نفي بعض القيم الأحادية التي تتجاهل ما عداها من القيم، إذ لا يكفي مثلاً أن تؤكد قصة ما على الشجاعة إذا كانت هذه الشجاعة مرادفة للقتل غير المشروع، أو للعنف، وربما تتناقض مع مبادئ الإنسانية التي ننادي بها في هذا الزمن. وما معنى أن نورد قصة ونجعل فيها الزنوج مثلاً تحت اسم العبيد بينما نحن في زمن نحاول أن نمحو فيه وصمة العار عن الإنسانية وهي العنصرية؟ يمكن ببساطة أن نغير المفهوم أو مدلول الكلمة.
والموروث الشعبي في الأدب والقصص ليس تراثاً فقط، ولا هو ملحق بالفلكلور بل هو نسق يجري في عروق كل أمة، ولا يمكن تجاهله أو تجاهل تأثيره، وما على الكتّاب إلا أن يطوعوا هذا الموروث ويجعلوه مفيداً للأجيال لا أن يحنطوه أو ينسوه بين طيات الكتب.
وهذه الناحية تبدو بنوع من المسؤولية مهمة أمام أمواج العصر التي تفرض حضارتها أسلوباً معيناً للحياة، كما تفرز أطفالاً متشابهين في بقاع الأرض من حيث أنماط معيشتهم، وسبل حياتهم، وحتى في ألبستهم، ومظاهر ألعابهم وتسليتهم، وربما تعليمهم، وتربيتهم أيضاً، ذلك لأن لكل شعب ذاكرته الجمعية، وخصائصه التي يتميز بها عن شعب آخر. ولا يمكن إذابة المجتمع الإنساني في بوتقة واحدة وخلق ملامح حضارية واحدة لأن التيارات في هذا المحيط الواسع ذات التأثير هي التي تتفاعل في الأعماق وليست التي تطفو على السطح.
فإلى أين يسير طفل المستقبل؟ هل يسير إلى أن يصبح جزءاً من الآلة.. أو مسيّراً بالآلة.. أو ربما عبداً لها؟
ما نريده لطفل المستقبل.. طفلنا.. أن يظل متمتعاً بهويته، وبطابعه الخاص به بالمرونة الكافية التي تجعله يتلاءم مع العصر دون أن يتخلف عنه أو يذوب فيه.
Post A Comment: