-كبر الأولاد الثلاثة وأصبحوا قرة عين الأب، الذي وجد في نضوجهم ثمرة تعب كل تلك السنين الماضية، والتي تحدي هديرها  وعنفوانها وصعوبتها وحيدا بعد رحيل زوجته، فعكف واهبا حياته لأولاده الثلاثة الذكور،
وكثيرا ما نصحه  الأصدقاء والمقربين بالزواج ،
فما زال في شبابه متدفق العافيةوالحيوية ،ولم يسلم من" الست روحية" خاطبة الحارة ، فكم من مرة  تبدي إليه مقترح اختيار زوجة من قائمة  عوانس الحارة ، لكنه يقابل مقترحاتها بالرفض ،
 فحياته هي أولاده ،سالم،  وعلي ، يوسف، وهو أصغرهم   تخرج من الجامعة، وأصبح محاميا تحت التمرين، و سالم وهو أكبرهم ،يعمل سائقا لتكسي،  أما علي، وهو أوسطهم فيعمل في التجارة الحرة ، يجلب بضاعته من أسواق الجملة ويفترشها في ميدان العتبة ،
الحياة رتيبة،   صباحها يعقبه مساؤها ، حتي يصطدم سالم بالتاكسي في حادث خرج منه بمعجزة،  لم يصب إلا  بخدوش وجزع في ساقه الأيمن ، ولكن التاكسي اصبح  علبة من الصفيح المطبق  ،فطالبه صاحبه بالتعويض  وأقام ضده دعوة قضائية،  بإتلاف ملك الغير  يطالب خلالها بمبلغ التعويض ، قيمة التاكسي
فاجتهد الأب حتي وصل إلي أن يسدد نصف  مبلغ التعويض ، وتنازل المالك عن النصف الآخر 
نظير صداقته القديمة له،  ونظرا لحالته المادية المتعسرة فهو لا يملك سوي البيت الذي يعيش فيه بأولاده ، أقترح سالم علي والده بيع البيت  والنقل في شقة بالإيجار ، وبثمنه يشتري له تاكسي يمتلكه وأخوته ، والباقي من ثمن البيت يعيشون به مستورين ،

-رفض الأب ذلك الإقتراح من سالم أمام  اخوته:
 
-الأب : لن أبيع البيت الذي آوانا طول هذه السنين ٠
سالم :ان بيع البيت ياأبي سوف يحل لنا كل المشكلات ٠

-الأب :أبيع ذكرياتي أبيع عمري ،كل ركن من أركان هذا البيت يمثل قطعة مني ،ومن حياتي وحياتكم  ،وذكرياتي مع أمكم الله يرحمها !!

-سالم :يا أبي، ذكرياتنا بداخلنا ،ولسنا في حاجة إلي جدران صماء لتذكرنا بها !!

الأب غاضبا : من قال لك أن جدران بيتنا صماء ؟ 
لا أنا أكلمها وتكلمني، طيف أمكم يسكنها ،
كلمات أبي تتردد فيها، وقبله جدي ،إنها ليست جدران ياسالم نجحدها ونبيعها لمن يدفع ثمنها !!!

-يصمت الأب لحظة ثم يستطرد قائلا 
من يدفع لنا ثمن ذلك كله ؟
أجيبوني من ؟من يدفع ثمن سنين الحرمان والوحدة،  والتعب في تربيتكم،  وتعبي طوال النهار في حمل غلال التجار علي كتفي ، فأرجع متعبا منهكا،  لا يحتويني سوي هذه الجدران ٠

-سالم :ياأبي الأمر يختلف عما تقوله  ،إن الدنيا حولنا قد تغيرت،  لم تبقي الحارة  هي حارتنا القديمة ، انظر حولنا قد تعالت الأبراج وارتفعت ، وأصبح بيتنا متقزم متهالك أمامها فلنبيعه لأحد من أصحاب ، هذه الأبراج علي أن يأخذ كل واحد منا  شقة تمليك في هذ الأبراج 

-هنا يصرخ الأب في وجه سالم قائلا:

-أصمت  ياسالم،  و لنسمع رأي أخويك ،ما رأيك ياعلي فيما يقوله أخوك بشأن البيت ؟

-وبتلعسم يرد :

-ياوالدي إنني قد تعبت من التجارة بالقطاعي، والجري خلف الزبائن،  وافتراش الميادين والدلالة علي بضاعتي،   والتعرض كل لحظة من شرطة المرافق،  ومصادرة بضاعتي، آن الأوان أن آخذ لي محلا محترما أمارس فيه تجارتي، بكل أمان واحترام دون امتهان ٠

-الأب وقد ارتسمت علي وجهه سيماء الألم  مما يسمع :
-إذاً أنت موافق علي بيع البيت مثل سالم،  فعلينا أن نسمع رأي الأبوكاتو حضرة المحامي ولدي يوسف ابن الجامعة ٠

-يوسف وكأنه قد استعد لمرافعة رنانة،  يحاول أن يجد خيوط يقوي بها حجته التي تؤيد أخويه :

-أبي الغالي قد تعبت في تربيتنا ، وصنعت منا رجالا يعتمد عليهم ، وآن لك أن تستريح وتترك لنا المجال لرسم حياتنا  ،وهذا البيت لا يصلح لحياتنا القادمة  ،وكما قال لك اخي سالم، وعليّ 
،هناك مسؤليات تحتاج منا سيولة، أولها شراء تاكسي ملك لسالم يعمل عليه ، وثانيها محلا لعليّ ، وثالثها مكتب محاماه لي لكي أمارس المحاماه لحسابي،  فأصبح محامي مشهور وليس محاميا ظهرات ،  يعمل باسم محامي آخر كل ما يزيده عني أنه يمتلك مكتبا خاص ، وأنا من يجهز المذكرات،  ويترافع  والأستاذ هو اللي يقبض  الاتعاب   ،فلا بد من بيع البيت يا أبي ٠

-لا يتمالك الأب نفسه فيأخذ بالتصفيق قائلا :

-مرافعة عظيمة،  ياحضرة المحامي الواعد ،ولكنها مرافعة في قضية خسرانه ياولدي ،خسرتم القضية خسرتم التربيه وخسرتم تاريخكم،  وسوف تصبحون لا جئين لدي أصحاب الأبراج يتاجرون بتاريخكم،   وتاريخ أبوكم وجدكم في هذا البيت، ومين يزود  ،ومين يزود٠

-سالم :ما هذا الكلام الكبير ياوالدي تاريخ ايه وذكريات ايه ، هل أخطأنا وأجرمنا لأننا أصبحنا كبارا،  نرسم حياتنا بأعيننا،  وليست بعينك انت  ياأبي ؟

-لا يتمالك الأب  نفسه  ،فتخر قواه فجأة، فيسقط علي الأرض مصعقا ،مغشيا عليه ،فيستدعي له  الطبيب ، فيجده قد أصيب بشلل نصفي وأصبح طريح الفراش ،

 -ومازال الأبناء يلحون عليه بالبيع ، وكل ما يريدونه عقد ملكيه البيت ، فيرفض الأب ذلك فيقرر المحامي يوسف ، رفع دعوة حجر علي أبيه،  بحجة  سفاهة تصرفاته الغير المسؤلة،   فيباع البيت ، ويخرج الأب منه جثة هامدة ، فقد لقي ربه ، ولعل الموت يكون درعه تجاه عاصفة الأحلام العاتية  ٠٠
"تمت"



Share To: