سقط القناع:

قناع المحتل، سريعا أزاله وبدأ مزاولة طقوس الاحتلال بكل مقتضياته السافرة، فاتخذ جملة من اجراءات التمكين كي يحكم قبضته الأمنية بالأساس فيسهل عليه تحقيق الهدف الذي حل من بلاده من أجله.

سريعا انتشرت لجان جرد الممتلكات العامة لحصر المصادر الرئيسية لإيرادات مصر، وأنشأت المستشفيات العسكرية لجنود الاحتلال، ولتأمين ركوب الفرسان تم مصادرة جميع الجياد (استكمالا لتجريد المصريين من الأسلحة والجياد لنزع أي مقومات بها يتصدون للمحتل ويصبح قتلهم من قبيل العدل لأنهم إرهابيين) وتم وضع خطة محكمة للانتشار السريع بالمدينة إذا ما قام المصريون بأي تمرد أو استنفار وهو ماتم من خلال ألفين من عساكر نابليون.

ويثني هنري لورانس على عدم ثقة نابليون في "المسلمين" تحديدا وليس في عموم المصريين وهو يسرد تحليل الجبرتي لبيان نابليون الأول عند حلوله لمصر وما هي النظرة الحقيقية لعموم المسلمين لنابليون وعساكره، وبإيجاز يقول الجبرتي:

"بيان نابليون مليء بالأخطاء النحوية والأسلوبية وقوله بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه، قول يجافي وينتقد كاثوليكية نابليون وجيشه ويبرز نفاقه لنا وقوله ما قدمت إليكم إلا لكيما أخلص حقكم من يد الظالمين، هذه أول فرية ابتدرها وأول كذبة ابتكرها، ثم ترقى لما هو أعظم من ذلك رماه الله في المهالك بقوله "وإنني أكثر من المماليك أعبد الله" لاشك أن هذا خبل في العقل وغلو في الجهل، أي عبادة فضلا عن كثرتها مع كفر غطى على فؤاده وحجبه عن الوصول إلى طريق رشاده، وقوله واحترم نبيه والقرآن العظيم لهو من قبيل النفاق والبهتان انعطافا على ماسبق.

وقوله الحجة التي كتبها الله لهم فإن هذا يعد من قبيل الجهل والكفر بمكان، فإن الله لا يملك الناس بحجة يكتبها لهم، غايته أن القوم يملكون البلاد عن أسيادهم كهؤلاء، أو عن أعقابهم أو بالغلبة والقهر.

وتتكشف طبيعة الفرنسيين الحقيقية أن إسلامهم نصب، وقوله "خربوا كرسي البابا"  وبذلك فقد خالفوا النصارى والمسلمين ولم يتمسكوا من الأديان بدين، فتراهم دهرية معطلون وللمعاد والحشر منكرون وللنبوة والرسالة جاحدون ويقولون بقدم العالم وتأثير العلوية والحوادث الكونية بالحركات الدورية وظهور الملل وانتقال الدول بموجب طبع القرانات وامتزاج المناظرات، وربما اعتقدوا بتناسخ الأرواح إلى غيرها من الأشباح، فلذلك لا يذبحون حيوانا يأكلوه ولا يقطعون رأس قتيل حتى يقتلوه لئلا يتفرق أجزاء روحه ويتناثر فلا يلتئم في جسم آخر ومثل ذلك من الضلالات وأنواع الخبالات.

وينهي الجبرتي تحليله المطول بقوله:

"ومسلكهم العام خاصة عاداتهم السيئة، إنما تجعل منهم كائنات قليلة التمدن وجديرة بالاحتقار، وما يستحق الإعجاب فيهم هو ما يتوصلون إلى استخلاصه في العلوم والتقنيات من إعمال العقل أما فيما عدا ذلك فإن مسلكهم وخطابهم إنما يدل بشكل واضح على أنهم ليسوا أكثر من منافقين"

استمر نابليون في نفاقه تجاه علماء الدين اضطرارا رغم علمه بعدم قناعتهم بما يظهره واستمر جيشه في فتح ثغور مصر، منوف ودمياط والمنصورة، وهذا الأمر يتم بسهولة، الأهالي يستقبلون الجنود بأمارات الصداقة ويؤدي المشايخ يمين الولاء للجمهورية الفرنسية والسلم مع السلطان والحرب على المماليك والعرب (متى كره المصريون العرب؟!!!) ويرجح هنري لورانس إخلاصهم في الأخير فقط.

ولتجنب الصدام مع مراد بك عرض عليه نابليون ترك جنوب مصر له مقابل دفع جزية أو كما سماها لورانس إتاوة، وصل عسكر نابليون الزحف نحو بلبيس للاستيلاء عليها من إبراهيم بك الذي انضم إليه جموع الفلاحين واصطدموا بعسكر نابليون ولكن سرعان ما استتب الأمر للفرنسيين الذين حرصوا على تأمين قوافل الحجاج والتجار لإثبات حسن نواياهم بسلامة المارين للأراضي الحجازية، ولكن عاد الجنود إلى الاستياء من الظروف المناخية والبيئية مرة أخرى.

وفي القرى التي فتحوها كان سكانها يظهرون الود لجيش نابليون ولكن سرعان ما يقذفونهم بالحجارة (وهو ما يفضح الادعاء بالترحيب بهم) والتي يرد عليها عسكر نابليون بطلقات النار بحجة البحث عن خبز، ويقترف الجنود الكثير من التجاوزات في القرى مما يدفع الضباط بفرض العقوبات عليهم فيزداد سخطهم.

وقبل العودة إلى القاهرة يأمر نابليون جنوده بإنشاء قاعدة عسكرية للسيطرة على الدلتا، ومنها سيكون الانطلاق التالي لسوريا.

الإسكندرية مصدر قلاقل:

كان كليبر الحاكم العسكري في الإسكندرية ودمنهور قد عمل على تحصين المدينة من ناحية البحر تحسبا لأي هجوم محتمل من العثمانيين أو الانجليز، ولم تهدأ المدينة خاصة بعد أن عين اثنان حكاما عليها واحد فرنسي مع محمد كريم، فانتشرت الاعتداءات على عسكر نابليون مما جعل كليبر يرتاب في الحاكم المسلم محمد كريم (هنري لا ينعته بالمصري ولكن بالمسلم وهذا استبطان واعتراف كون حملتهم المزعومة ليست إلا حملة من الحملات الصليبية) فضلا عن انتشار شائعة من نوع أنه تم إبادة الجيش الفرنسي فهدد كليبر من يروج لهذه الشائعات بعقوبات جسيمة.

أما في دمنهور فقد انضم جموع الفلاحين مع البدو يظهرون الولاء للدولة الفرنسية ولكنهم في الخفاء يرتكبون الأهوال بحق عسكر كليبر، فقد اعتدوا على طابور لجنود كليبر الذي أرسلهم لدمنهور لتذكير السكان بسطوة الجيش الفرنسي، فقام الآلاف من البدو والفلاحين بالاعتداء عليهم مما جعل كليبر يفرض على التجار المسلمين وغير المسلمين إتاوة قدرها ثلاثون ألفا من الجنيهات، فلما حضر محمد كريم والمندوبون المسلمون اعترض محمد كريم الذي قال أن اليهود يتحملون الجزء الأكبر من هذه الإتاوة، فأمر كليبر بالقبض عليه خاصة وهو يرتاب فيه منذ حادثة الطابور وأمر بأن يدفع التجار المسلمون مائة ألفا من الجنيهات تحت تهديد المساس بالرهائن، وظلت المقاومة من البدو والفلاحين لا تهدأ رغم استبعاد محمد كريم في أبي قير كي لا يتصل بالسكان.

أصبح كليبر حاكما عسكريا للإسكندرية فقط وعين مينو حاكما عسكريا على مدينة رشيد، والمشكلات تتراكم على نابليون وجيشه، فضلا عن جيوب المقاومة فإنهم لديهم نقص شديد في الأموال والمؤون مما اضطرهم إلى فرض الضرائب الباهظة على التجار والأعيان.

معركة أبي قير البحرية:

انجلترا المراقب للموقف كانت تدرسه من كل جانب حتى تضرب فرنسا الضربة الموجعة، فلا ينبغي لغيرها أن لا تغيب عنها الشمس، فحلت انجلترا الامبراطورية بسفنها وسلاحها لتضرب سفن نابليون في القلب محدثة هزيمة مدوية من قتل وأصابة الكثير من جيش نابليون فضلا عن السفن التي أحرقت بما فيها من بارود سمع دوي الانفجارات في رشيد.

أراد جيش نابليون وقواده تدارك الأمر داخل مصر كما في سواحلها، فأدت هزيمته أمام القوات الانجليزية إلى انتهاج سلوك الوحش الجريح في مدن وقرى ومصر خاصة قرية السالمية (وصف لورانس سكان هذه القرية بالأشرار المتوحشين لأنهم يقامون الاحتلال) التابعة لمدينة رشيد حيث قتلت جماعة مسلحة بقيادة الشيخ سلامة واكد تمانية جنود فرنسيين فقام كليبربإعطاء الأوامر بقتل جميع المسلحين ومصادرة بهائمهم وإحراق القرية بكاملها لتعرف مصر كلها جزاء من يتعرض للجنود الفرنسيين، ثم في اليوم التالي يخاطب القرية بأنه قد عفا عنهم وقام بنفي شيخ القرية ومصادرة ممتلكاته وتعيين شيخ آخر.

وللحديث بقية إن شاء الله 





Share To: