المرة الأولى التي رأيت فيها فاطمة كانت بعمر السنة تقريبا ، حين خرجت تحبو على اربع من باب الدار ، ثم تلقفتها اختها الكبيرة بسرعة لترجعها الى البيت . بعد عقد من السنين بدأت الاقاويل تنتشر عن فاطمة في كل ارجاء الحي، يُشاع انها تهب من نومها هلعةً مذعورة بعينين جاحضتين تكادان تقفزان من محجريهما، فتسترسل بسرد احاديث وحكايات شتى عن شخصيات واماكن غريبة بالغة الغرابة وغير مفهومة تماما مما أقلق والديها واشاع فيهما الملل والاحباط وما عادت جهودهما تفيد بعد ان عجز الاطباء عن الوضع النفسي المحير للبنت. لم تنفع معها كل العقاقير والمهدئات ، وحتى المشعوذين الذي ابتلعوا رزما من الاموال لاخراج المس من رأسها كما يدعون ، عجزوا عن شفائها فلا تعاويذ وآيات ولا اشعال انواع البخور رفقة الترانيم مع الضرب بالخيزران أن تجيء بنتائج ملموسة ،فاستسلموا صاغرين من أن ثمة عفريت قد فر من عوالم خيالية ليسكن داخل رأسها الصغير.
ولجهل الوالدين وقسوتهما عزلا البنت في غرفة في الطابق الثاني من الدار ، لتقبع وحيدة مع هلوساتها وكلماتها الغريبة .
بدأ الفضول على اشده يموء في صدري كقط حشر في خزانة ، لمعرفة احوال فاطمة المسكينة.
في احد الايام جلس بجانبي -عبد المطلب والد فاطمة - في مناسبة زواج احد شباب الحي ، لم اتوانى في سؤاله عن احوالها ، وبصفتي استاذ جامعي قلت ان لي زملاء كثر مختصين في علم النفس والامراض العقلية وانا مستعد للمساعدة لانقل لهم حالة فاطمة، وعلى ما يبدو كان الأب يسعى للتعلق بأي قشة أمل .
تم الاتفاق على موعد زيارتي للبنت الجمعة اللاحقة.
فتح باب الغرفة الحديدي بصرير يذكّر بابواب السجون وقال عبد المطلب دون ان ينظر لي : تفضل استاذ.
كان هواء الغرفة يعج بالروائح الغريبة ، في الوهلة الاولى بدأت نسائم لرائحة طعام فاسد ثم ما لبثت ان تحولت الى رائحة عطن فراش واغطية بالية قادمة من ركن الغرفة . انتبهت الى عرج بسيط لفاطمة اثناء سيرها فيما تستعين بجدار الغرفة ، متمتمة بكلمات غريبة ، لم افهمها. وجهها الذابل المتغضن تحت شحوب تغمره ندبٌ بسبب الاهمال . تجاعيد مبكرة بدت على بشرة وجهها بلونٍ بني موغلة الجفاف. جسدٌ يرتجف كما لو ان ريحاً باردة تعصف به من الداخل .
وقع نظري على كلمتين انتشرتا على جدران الغرفة بحروف غريبة ، ميزت لغتها لكن تعذّر عليّ معناهما. كلمتان باللغة الروسية (Спаси меня) !. بعد البحث عن معنى التعبير تبين انها تعني ( انقذني ) .
بدأ الامر مفزعا لي وغريبا . كانت فاطمة تتكلم بنفس اللغة ايضا التي تبين انها تنطقها بطلاقة مما زاد في حيرتي، لكني عقدت العزم على كشف ملابسات حال الفتاة ومن اين جاءت باللغة الروسية وانا اعرف ابويها بسيطين لم يحصل أي منهما على اي شهادة اكاديمية بل هم شبه اميين . تفحصت حاسوبي مرة ثانية وكتبت ( من انتِ ومن اين تعلمتي اللغة الروسية ، عليك ان تحكي لي الحقيقة وتكتبي لي على هذه الورقة كي اتمكن من انقاذك). سرعان ما ترجمتها للروسية ونسختها بورقة وذهبت لفاطمة . دخلت عليها ، كانت في احد الاركان ترتعش وبدات اكثر ذبولاً وانطفأ بريق عينيها بعدها خيّم عليهما يأسٌ ثقيل .
مددتُ بالورقة لتلتقطها دون وجل ، وما ان رأت ما دونته بدأت تنظر لي وفتحت عينيها على وسعهما مبتسمة وأمومأت لي براسها بالموافقة. اعطيتها ورقتين وقلم وربت على رأسها بحنو ، وعلى الفور صارت تكتب بنفس اللغة وبخط واضح لشخص يجيد الكتابة ، اعتلتني قشعريرة من غرابة الموقف وبدأ قلبي يخفق كضبي مذعور وانا انظر لفاطمة فيما هي منكبّة على الورقة تكتب ودموعها تنهمر وتتوقف احيانا لتسترجع انفاسها امام عبرة تحاول الفرار من صدرها فتصدها بشفتيها المزمومتين وتعاود الكتابة على انغام نحيب مكتوم في غياهم مظلمة . اعطتني الورقة ونظرة الرجاء تلاحقني وانا اخرج من الغرفة وكلمة ( انقذني ) بالروسية سمعتها رطبة مبللة بالدموع . بدات اترجم ما كتبت وكانت المفاجأة :
"سيدي المحترم . اسمي : ( تاتيانا ) ابنة قيصر روسيا نكولاس الثاني . هجم علينا جنود لينين في ليلة سوداء كقاع بئر ، كخفافيش متعطشة للدماء ، امتلأت الدنيا بالصراخ والموت وتخضبت الارض بثوب احمر قانٍ . اخرجت وشقيقتي ( اوليغا) الخادم ( شيليخوف ) من باب القصر الخلفي. بدانا نركض يحاصرنا الخوف والبرد من كل جانب والرعب ينسل الى اجسادنا كالافاعي والهواء يضرب وجوهنا الناعمة كنشارة زجاج حادة ، واقداما توغل في الثلج اكثر فاكثر ، وبدأت اصوات الجنود المطاردين تقترب ونحن بين الركض والسقوط والارتطام بالأشجار ، ثم سقط ( شيليخوف ) برصاصة اصابته في خاصرته ، وبدات ( اوليغا ) ترتجف اكثر وتنتحب بصوت مرتفع ، والبرد ينخر العظام ، وبين حين واخر تئز رصاصات فوق رؤوسنا وجنود لينين لم يتوانو عن مطاردتنا ، وقد تحالفوا مع الشيطان على قتلنا . سقطت ( اوليغا) برصاصة ايضا واخرى في راسي وطعم البارود في حلقى ولا اعلم بعدها شيئاً الا وانا احبو على اربع بين عائلة غريبة لا اعرف ما يقولون منذ خمسة عشر عاماً.
Post A Comment: