يعيش الإنسان دائما في جدلية بين الحياة والموت ، فهما ضدان ، الموت ضد الحياة لا يلتقيان أبدا ، والموت يمثل القلق الدائم ، والحقيقة الأبدية التي يعانيها الإنسان بصفة عامة ، والشعراء بصفة خاصة ، فالشاعر دائما يسعى إلى الحياة السعيدة ، رغم اعترافه بحقيقة وحتمية الموت والفناء .
إن هذه الجدلية هي ما تمثل التوتر الشعري عند بلند الحيدري ، وهذا التوتر ناتج عن حاجة الذات إلى الحياة ، واصطدامها بالواقع الخارجي ، والحقيقة الكائنة في الموت ، ومن هذا وذاك يتولد التوتر النفسي لدى الشاعر ؛ لينعكس ذلك على أدائه الشعري ، ليخرج علينا بمنظومة شعرية تحمل فلسفته الخاصة إزاء فكرتي الموت والحياة .
وبالنظر إلى الجدول الإحصائي الخاص بـ (ألفاظ الموت والجدب) يمكن ملاحظة ما يلي :
أولا : أن مفردة ( الموت ) بمشتقاتها المتنوعة التي قام بتوظيفها الشاعر في منظومته الشعرية تمثل اللفظة الأكثر تواترا في هذا الجدول الإحصائي ، ولا يكاد الباحث يبالغ إذا ما قرر أن هذه اللفظة هي أكثر ألفاظ المعجم الشعري عند بلند الحيدري تواترا ، وبخاصة إذا أضفنا إلى هذه اللفظة الألفاظ الأخرى التي ترتبط معها دلاليا ، وتندرج تحت حقل دلالي واحد ، مثل ( القتل – قبر – كفن – جثث – احتضار ... الخ ) .
ثانيا: بالنظر إلى الجدول يمكن ملاحظة أن هناك ألفاظا أخرى قد استخدمها الشاعر كي يسلط الضوء ، ويؤكد فكرة الموت والجدب ، وانعدام الحياة والخصب وقد استخدم الشاعر هذه الألفاظ بكثرة أيضا ، مثل ( سجن – جحيم – حريق – يباس – قفار – صحراء – فناء – ملح – سموم – عقم – دمار – كهف – بوار . ) .
والواقع.. إن القارئ لأعمال بلند الحيدري الكاملة ، يستطيع أن يدرك على الفور : انه قلما تجد صفحة من صفحاتها ليس بها كلمة من كلمات ( الموت والجدب ) ، ولعل هذا راجع إلى الواقع المعيش ، وتتابع الأحداث اليومية الكئيبة ، وسيطرة النظام الحاكم في كل شيء ، فالتجاوز والخروج على النظام في وطن الشاعر معناه ( الموت ) ، هذا بالإضافة إلى الظروف التي نشأ فيها الشاعر( التشتت العائلي ) ، كل ذلك انعكس على وجدان الشاعر وألفاظه السوداوية .
وبالنظر إلى الجدول الإحصائي لـ ( ألفاظ الموت والجدب ) ندرك أن الحيدري سوداوي الألفاظ ، فقد تواترت لفظة ( الموت ) تواترا كبيرا في أعماله ، وبخاصة في الدواوين الثلاثة الأخيرة ، هذا إلى جانب الألفاظ الأخرى التي تندرج مع لفظة   ( الموت ) في حقل دلالي واحد ، وبخاصة لفظة ( القتل ) التي تواترت أيضا تواترا كبيرا في أعمال الشاعر .
ولعل هذا التواتر الكبير لألفاظ ( الموت والجدب ) لم يأت عشوائيا ، أو دون وعي أو هدف دلالي يقصده الشاعر ، ويسعى وراءه ، أو لنقل هدف دلالي خطته التجربة الشعرية ، ورسمت حدوده وأبعاده الدلالية ، والنفسية ، والفنية .
إن الذات – ذات الشاعر – لم تعد ترى في دنياها سوى الموت والخراب يلفان المكان ، فالموت جاثم على صدرها ، يغتال صباها ، متجاهلا أحلامها الزاهرة ، مخلفا الحسرة واللم ، والموت البطيء . يقول الشاعر :
والموت يحبو فوق صدر صباي نشوانا
بلحن شقائي المتقطع
يغتاله قبل الفناء كزهرة تذوي وعيناها
بحلم ممتع
كقصيدة ماتت على شفتي ولم
تسمع صدري إلهامها المتوجع ([1])
وإذا كان الإنسان خلال رحلته في هذه الحياة يمر بحالات مزاجية ، ونفسية مختلفة ومتفاوتة يتأثر بها ، وقد يؤثر فيها . فإن الشعراء هم أكثر الناس تأثرا بتناقضات هذه الحياة ، وأكثر الناس تجاوبا مع أفراحها وأحزانها ؛ فالشاعر تارة يحب الحياة ويقبل عليها ، وتارة أخرى يكره الحياة مستشعرا بجفوتها عليه ، ومن ثم يهرب منها مقبلا على الموت معتقدا أن في الموت الملاذ الأخير له من قسوة هذه الحياة :
ما زلت أشتاق الحياة
وإنني …. سأموت والنسيان يقبر مطلعي
سأموت لا ماض يحن لرؤيتي … يوما
ولا خل سيدرك ما أعي ،
وحدي أكفن بالظلام تعاستي
وأرى سواد الليل يملأ أدمعي ،([2])
ورغم أن الذات تشتاق إلى الحياة ، وتحن إلى الحياة السعيدة ، إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن ؛ فالواقع بسطوته الجائرة ، قتل كل رجاء قد يكون نبت في صدر الذات ، وأوقفها على الحقيقة التي تفر إليها الذات ، وهي أن الموت راحة لعنائها ، وشقائها ، وأصبحت آمالها في مهاوي القبر الذي سوف تسكنه .
يا طيوف الفناء
مري سريعا
قد خبرت الحياة في كل دور
فعرفت الهدوء
في الموت يحيا
ومهاوي الرجاء
أرجاء قبر([3])
لقد علم الشاعر أن الحياة زائفة كاذبة خادعة ، لا وعد فيها إلا ويرسف في ذل القيود والخنوع ؛ ولذلك فقد نفض الشاعر يده من غده ، وما قد يأتي فيه ، وقد يئس من أن يأتي الغد بأحلام الذات ، وعلم أن لا خلود لحي في هذه الدنيا ، وأن سر الخلود في الحقيقة الحتمية وهي ( الموت ) :
هذى يدي
نفضت عنها غدي
وألف وعد راسف في القيودْ
فليحلم النسر بأمواته
ولتحلم الموتى بسر الخلودْ ([4])
فقد أدركت الذات ، أن في الموت بعثا لها من جديد ، فأصبحت ترى فيه بلسما يشفي جراحها النازفة ، وراحة من تعب السنين الخالية ، إنها تتمنى الموت ، تتمنى الموت من اجل الحياة :
أنت ... يا هاجسا في الرغبة في الحياةْ
لحدّ الموت من أجل الحياةْ ([5])
وكثيرا ما يشبه الشاعر الصمت المطبق الذي يحوطه ، ويحوط غيره من الناس الذي يحيون حياة الذل والقهر والبطش الشديد بالموت الذي يخرس الفم :
عكازان
شمس تغرق في عتمة بحر قاني
وامرأة تبحث عن ظل
وبقية ظل لامرأة يحملها عكازان
وبكت في صمت
وكان الصمت كبيرا كالموت ([6])
ويقول أيضا :
بغداد ماتت من جرح فينا … من جرح فيها
من خرس أعمى شل لسان بنيها
بغداد أهلكها الصمت
فليس لنا فيها … وليس لها فينا … إلا الموت
وإلا الجثة والمسمار([7])
إن الموت قد يصبح بداية لحياة جديدة ترجوها الذات ، وتتشوف إليها ، حيث ترى فيه مولدا لكل الأمنيات الخضر والرجاء :
لا تصرخي
غوري وراء صمته حكاية
أروع ما أبقى بها
أن تولدي في موته
مشارفا خضراءْ
بيارقا تملأ رحب الأرض والسماءْ
أروع ما أبقى بها
إن صرت في الموت لنا … الرجاءْ
إن صارت الموتى به ..... أحياءْ ([8])
فالموت صار عند الذات معادلا للحياة التي تتشوف إليها ؛ إذ إن الموت والحياة تساويا عندها ، لا فرق بينهما غير أن الحياة معلوم ما حدث فيها ، وقد يتوقع ما يحدث مستقبلا ، أما الموت فإنه مجهول الهوية ، أحداثه مجهولة لا يعلمها البشر ، ولكنهما في النهاية متشابهان عند الذات ، فالحياة بلا أمل هي موت لا تملك الذات دفعه ، والموت راحة للذات من عناء هذه الحياة الظالمة الكئيبة التي تقضي على كل أمل ، وحلم :
فذلك بيتي
فكوني إليَّ
فإني تعبت
إني سقطت فلست لليل ولست لصبح
ومسى جراحي علَّ لنا ، لقاء هنا
يصير بنا .. الموطنا
فأدرك بعثي
بموتي .([9])
يصبح الموت عند الحيدري  بوابة الخلاص من حياة محدودة تسبب الألم لروحه التي أضناها طلب التحرر ومعانقة الحياة ، الحقيقية التي هي وراء الموت. ليست هذه الحياة حسب رؤية الحيدري سوى الضلال البعيد والسجن لمن ينشد صوت الحياة الرخيم .
كما يرى الشاعر أن الموت طهارة من دنس الحياة الكئيبة الظالمة ، والموت طهارة يتشوف إليها الشاعر ليغتسل من أدران الدنس والجرم والخطيئة :
يا ولدي
كن في حُدبة …أو في واسطة القوس
لتنجو
أن كُسرت نجت النفس
ولم ترم القوس
لم يك شيء لك في التوبة
أو شيء في الجرم
لم يك إلا الموت
والموت طهارةْ . ([10])
والظلمة عند الشاعر تعني الموت المحقق الذي لا مناص منه ، والظلمة في معجم الشاعر تعني الظلم واليأس :
رجلا ن تجوسان الليل بلا صوت
الظلمة توحي بالموت ([11])
والموت في معجم الشاعر لا يبحث إلا عن الحفاة العراة ، الذين يئسوا من هذه الحياة ، وذل القهر والعبودية ، والصمت المهلك :
فقرننا العشرونْ
ألغى مسافات الرؤى في النوم
كل المسافات
لا شيء غير الموت للحفاةْ ([12])
إن " البكاء النازف دما في دواوين بلند الحيدري هو بعض أوجاع القومية الكردية المحكوم عليها بالشتات والتآمر عليها – منها ومن أعدائها – فضلا عن التشرذم والموت ، لكأنه الوجه الآخر لبكائية طويلة نازفة يمثلها مظفر نواب صديق الحيدري وتوأم روحه ، لكأنهما معا بكائية هائلة للشتات العراقي : الكردي والعربي معا ، في زمن المؤامرة الكبرى ، والصلف الجاهل الشديد العتو والطغيان . من هنا يصبح " البحث عن صبح " في شعر " بلند " حلما يتحقق عبر الصمت وعبر الموت " ([13])
ذات صباح من تشرين
غنيت لنا أغنية .
كان الصبح حزينْ
كان الصوت حزينْ
بغداد… وتلوي صوتك في
شاطئ  ... نهر مسكينْ
بغدادْ :
يا حسكا من سمك ينشر
جرحي على حدي سكينْ
بغداد … ويلم غناءك صمت
ويغور بنا في جرح غنائك موت
ونقول لعل لنا : عبر الصمت
وعبر الموت
وعبر القتلى الآتين إلينا
فجرا يبحث عن ميعادْ
في زمن ما … في أرض ما …
في حلم عن بغدادْ ([14])
ويقول بلند :
نفس الطريق
نفس البيوت، يشهدها جهد عميق 
نفس السكوت .. كنا نقول غداً يموت..([15])
من هذه العلامة التي دارت علي أرضيتها عملية التكرار فان التجانس الذي حصل للعبارات (الطريق، البيوت، السكوت) تناظرت مع العبارة( كنا نقول غداً يموت)، فالموت إذن هو النتيجة النهائية التي يخرج بها الشاعر من بداية قصيدته، وهو دخول سريع ومباغت.. وبذلك يحاور الشاعر من خلال إيقاعه الشعري الأجواء المكانية المؤثرة علي ذوات الناس.. وهي متخذة عدة اتجاهات فـ (الطريق/ علامة للمكان المفتوح) و( البيوت/ علامة للمكان المحدود) و( السكوت/ علامة للفعل المكبوت) .. لتتضح أمامنا الإيهامات المشحونة بالحس الانفعالي المتمحور مع الذات والمعلن بـ (الموت)، (كنا نقول غداً يموت) ، فان عملية توظيف الزمن إلى قضية حياتية مرتبطة بمصير الواقع، ليصعد الإيقاع الشعري بطريقة تراجيدية متأنية ليصل إلى آخر مقطع " وتخاف أن يمضي النهار"(207) فحركة الحزن هنا واليأس هيمنت علي أطر القصيدة .. ليظل مفتوحاً أمام المتلقي برغم كل عوامل الإحباط المشحون بداخله، فـ (غداً يموت .. و.. يمضي النهار) ، دخل ضمن أنماط العلاقة بين المدلولات والعوامل الحسية / العيانية ، والمادية الملموسة ، فالموت = نهاية ملموسة ، والنهار = حالة محسوسة ، ويمكن للإنسان أن لا يفرق بين الليل والنهار في حالة فقدان بصره ، وبذلك فهو حـــس عياني .
([1] ) الأعمال الكاملة ، بلند الحيدري ، ص 97 - 98
([2] ) السابق ، ص 98 - 99
([3] ) الأعمال الكاملة ، بلند الحيدري ، ص 64
([4] ) السابق ، ص 254
([5] ) السابق ، ص749
([6] ) الأعمال الكاملة ، بلند الحيدري ، ص 728
([7] ) السابق ، ص 723
([8] ) الأعمال الكاملة ، بلند الحيدري ، ص 608
([9] ) الأعمال الكاملة ، بلند الحيدري، ص 600 - 601
([10] ) السابق ، ص 707
([11] ) الأعمال الكاملة ، بلند الحيدري ، ص 553
([12] ) السابق ، ص 569
([13] ) فاروق شوشه : زمن للشعر والشعراء ،الهيئة المصرية العامة للكتاب – مكتبة الأسرة - ، 2000 ،ص155
([14] ) الأعمال الكاملة ، بلند الحيدري ، ص 801 -802
([15] ) الأعمال الكاملة ، ص 205






Share To: