أعجبتني أمريكا خلال زيارتي السياحية لها وبدا حلم البقاء مدة أطول يداعب خيالي، لزيارة أكبر عدد من الولايات، بل بدأت أفكر في استثمار وجودي لاستكمال دراستي الجامعية.. أعرف حجم الصعوبات التي ستواجهني وأولها عدم تقبل العائلة لبقائي هنا وحيدة في مجتمع منفتح جدا، وأنا القادمة من مجتمع محافظ جدا، مع أن عائلتي تعتبر منفتحة نسبيا، وسط ذلك المجتمع المحافظ المغلق، وثانيها صعوبة الحصول على تمويل لدراستي وهذا يعني إما الحصول على منحة دراسية من إحدى الجامعات، أو العمل بجانب الدراسة وهو ماكنت أميل إليه حتى الحصول على منحة أو دعم.
كنا في شهر أغسطس والدراسة تبدأ في شهر سبتمبر، ولذلك اغتنمت الفرصة وقدمت على عدة جامعات وتم قبولي في جامعة في مدينة صغيرة تبعد عن مدينة ميامي أربعين ميلا ولحسن حظي فبعد دراسة أربعة أشهر على حسابي الخاص، وكنت إثناءها أعمل في مكتبة الكلية بمبلغ رمزي حتى علمت أن هناك توجهاً حكومياً لدعم المبتعثين على حسابهم الخاص، وضمهم إلى البعثة الحكومية بعد استيفاء الشروط وهذا يسر علي حل العائق المتمثل بالأسرة حيث بعثوا أخي الأصغر كمحرم ومرافق لي وهو المبتعث أيضا لدراسة هندسة الكمبيوتر، ومن هنا بدأت متاعبي ..
أخي صوت القبيلة وعينها، كان يريد أن يحافظ علي كجوهرة مصونة، وأن أعود كما ذهبت إلا من معرفة تخصصي. وكان طموحي أكثر من ذلك، أكثر من اكتساب المعلومة أو المعرفة؛ بل أردت أن أتعرف على الثقافات، وأسلوب الحياة، والحضارة التي قرأت عنها كثيرا. والتنوع المتناغم الذي جعل أغلبية بيضاء ترشح رجلا أسودً مغمورًا رئيسا لماءتين وسبعين مليونا أغلبهم من البيض، بل يتحكم في مصير العالم.  لجدارته وليس لأي شيء، آخر كالقبيلة أو الجهة، أو غيرها من الامتيازات، التي يركبها الشخص في عالمنا الثالث، للوصول إلى المركز، حتى لو كان وكيل وزارة أو مدير عام!
في البداية، فرحت بقدوم أخي؛ ليبدد وحدتي، ويعينني، ويسليني، فصرت أعود إلى الشقة غير مستوحشة كما في السابق، أقمنا في البداية في مجمع سكني فيه مجموعة طلاب، هذا بشكل مؤقت، حتى استطعنا الحصول على شقة مكونة من غرفتين وصالة ومطبخ بحمام مشترك. صحيح أن قيمة آجارها عالية بعض الشيء، لكن مكافآتنا الشهرية تغطي قيمتها مع معيشتنا وحاجاتنا ومتطلباتنا المعيشية الأخرى.
كنا نصعد الدرج في أول يوم فرحين بالحصول على هذه الشقة المناسبة. وكانت أصواتنا عالية وكنا مستعجلين ونتقافز من الفرحة. عندها كدت أصطدم بسيدة كبيرة في السن، ترتدي بنطالا فضفاضا، وقميص أزرق داكناً ، كان شعرها قصيرا خفيفا يغط في البياض.  نظرت إلينا نظرة غريبة لم استطع تفسيرها ولكني لم ارتح لها. وللأسف أنها فتحت باب الشقة المجاورة لشقتنا. 
كان علينا أن نكلم العائلة ونخبرهم بهذا الحدث الهام والجميل. اتصلت بالوالدة وأخبرتها.. فرحت كثيرا ولم تسأل عن التفاصيل.. كما لم تحدثني عن ما يدور في محيطها.. فعرفت أنها مازالت متضايقة بعض الشيء وقلقة علي.. ولم تقوى على إخفاء عدم الرضا وحزنها المنبعث من صوتها الثقيل المتهدل، وهي التي كان الجيران يسمعون صوتها عندما تكون فرحة أو حتى عندما تغضب، حتى أن جارتها كثيرا ما تعيد عليها بعض الجمل التي ترددها عندما تكون في حالة فرح، تلك الجمل الممزوجة بضحكات صافية ورنانة تبعث على البهجة.
مضت الأيام جميلة في البداية؛ كنا نتحرك سويا، ونستكشف ما حولنا، وما هو بعيد عنا، حيث كنا نزوز الولايات القريبة في عطلات (الويك اند) ، تم إعفائي من دراسة اللغة بعد أن حصلت على 540 درجة في اختبار التوفل، أما أخي فقد دخل معهد اللغة في نفس المدينة. صرنا نخرج من الشقة بأوقات متفاوتة، لأماكن مختلفة، ولكن ما أشعرني بشيء من الضيق هو تواجد أخي في كليتي بشكل متكرر، مع أنه لم يسجل فيها، هو يعتقد بأني لا أعرف ولكني تأكدت أنه يأتي متخفيا ويراقبني.. 
لا أدري ما لذي يخشاه، فإذا كان يخشى أن أنسجم وأنغمس في حياتهم الاجتماعية فليطمئن لأني عاهدت نفسي على أن أخلص لدراستي، وأن أحتفظ بمسافة ليست شاسعة ولا قريبة من هؤلاء الشباب الذي لاحظت أنهم حريصون كثيرا على المواعدة والخروج مع الفتيات، والحقيقة فاني أحس في أعماقي رغبة بريئة في أن أعرف هذا الرجل الغربي المتفوق تكنلوجيا كيف يفكر وكيف ينظر للكون والحياة والآخر لكني أخشى الاقتراب منه.. 
وحتى لا يتم تفسير هذه الرغبة خطأ فاني تغاضيت وتجنبت زميلي الأمريكي في الشعبة الذي يحاول كثيرا أن يتقرب مني حتى وصل الأمر به إلى التصريح بإعجابه، وطلبه اللقاء خارج الحرم الجامعي.. إنهم لا يخجلون من ذلك ولا يرونه عيبا.. صحيح أنه شعر بالضيق عندما رفضت طلبه في أدب، متعللة بكثير من الارتباطات والواجبات التي لا تسمح لي بالخروج مع أي أحد، وكأنه عرف دوافعي الحقيقية قائلا أرجو أن لا أكون أزعجتك، اذا كان في ذلك مخالفة لعاداتكم وتقاليدكم، والحمد لله أن لم يكرر ذلك.. 
كانت جميع لقاءاتي عادية جدا، وفي أحوال عادية كالصف، وحلقات النقاش، وكافيتريا الكلية، وإن كنا نحن البنات العربيات نفضل أن نبقى دائما مع بعض في الأوقات التي لا تخص الدراسة كالفواصل بين المحاضرات وتجمعات الويك اند. هناك حاجز كبير بيننا نحن الطالبات العربيات، والشباب الأمريكي بل حتى الشابات؛ غالبا ما نتجنبهم، لا يدركون الاختلاف الثقافي: أحيانا يعاملوننا كالأمريكيات، وهذا يزعجنا كثيرا، حتى المتحررات منا. نعتقد فعلا أنهم سطحيون ومغيبون بل أغبياء، أرجو أن لا يعتبر ذلك عنصرية مني.
يا الله! كم شعرت بالضيق والغضب، ولكني تمالكت نفسي وتظاهرت بأني لا أعلم أنه يراقبني. كيف بلغ به الأمر من عدم الثقة لدرجة أن يتتبعني ويراقبني! تمالكت نفسي، مع أني أكره جدا، بل أمقت أن  أكون تحت المراقبة من أي أحد.. كان يتتبعني ليرى مع من أتحدث ومع من أمشي. وماذا أعمل وأنا التي طول عمرها تروح وتجيء، تقول وتصمت متى ما أرادت دون وصاية من أحد.. كانت هذه أولى الصدمات.. سكتُ وفي نيتي أن أُفاتحه حول ذلك في يوم من الأيام، محتفظة بثقتي العالية في نفسي.
وفعلا في لحظة تجلي ورواق بيننا، وكنا جالسين في الصالة وبيننا فناجين الشاي والقهوة والتمر التي جلبها معه من الديار حاولت أن أنقله تدريجيا إلى تلك المنطقة الحساسة من الحوار عامدة ألا يتكهرب الجو بيننا حتى وجدتني أقول: أراك في كليتنا بعض الأحيان! ماذا تفعل هناك؟ رد مداريا ارتباكه، ومحاولا التماسك:
- أبدا، لا شيء ، لدي بعض الأصدقاء العرب أزورهم أحيانا خاصة عندما يكون عندي " أوف كلاس"
- بودي لو أُصدق، ولكن بحكم معرفتي بك يا وليد أشعر أنك تراقبني، فإذا كنت كذلك حقيقية، وكنت تخشى أو تخاف علي، فلتطمئن ولتعلم أن أختك صادقة مع نفسها ومع الآخرين، ولن تفعل شيئا يتعارض مع دينها ومبادئها، وهذا توجه داخلي نابع من ذاتي لا علاقة للآخرين به، فما كنت لا أعمله في الوطن سأمتنع عنه هنا أيضا.. ولأني أثق في الآخرين، فاني أتوقع من الآخرين أن يثقوا بي ..
قاطعها:
- من تقصدين؟ تداركت:
- لا، أنت لست آخرين.. أنت أخي ولكني لا أحب يتابعني أو يحاصرني ويلاحقني أحدٌ أيً كان ومهما كانت صلة قرابته بي وغلاه عندي.. بل أمقت كل من يفعل ذلك.
بعد هذا الحوار الذي شعرت فيه أنه استوعب الرسالة، لم أعد أراه في الكلية ولا حتى في خارج الكلية، ما منحني شيئا من الحرية، اذا رغبت في الانفراد بنفسي، وممارسة حياتي الخاصة؛ إذ أصعب شيء على الإنسان أن يحس أنه مراقب. للأسف مشكلتي أو قضيتي كانت مع القريب والقريب جدا، وليس الآخر البعيد الذي لا يشبهني.. مشكلتي مع القريب البعيد.. لم أكن أريد أن يكون أخي هو ذلك القريب البعيد.. ولو أردت هل أقوى؟  ثم لماذا يكون أخي البيولوجي هو الآخر؟ لماذا أصبحنا مختلفين؟ 
خلال الشهور التالية لحديثي معه حول تلك الحادثة غاب عن ملاحقتي ولكني بدأت ألحظ عليه أشياء غريبة أخافتني، وجعلتني ألوم نفسي حتى لقد تمنيت أني لم أفاتحه وكأني أنا السبب فيما حصل له من تحول: لم يعد يهتم بي، لا يواصل الحديث معي كثيرا، وغالباً ما يكون منطويًا منزويًا واجمًا.. كثر خروجه، بل أصبح يتأخر ليلا في العودة للشقة. أحيانا لا أراه ؛ فهو يأتي ليلا ويفتح باب الشقة ويدخل، ثم يقفل باب غرفته على نفسه، وعندما أستيقظ صباحا قبله أحاول إيقاظه ثم أذهب لكليتي. وفي الأيام الأخيرة كنت أتعب كثيراً في إيقاظه، وكثيراً ما أضطر إلى تركه في منامه وأذهب حتى لا تفوتني المحاضرة، ولا أعلم هل خرج بعدي أم لا.
الأدهى أنه في أحد الأيام وكنت خارجة لإحضار بعض الأغراض أو المواد من سوبر ماركت الحي القريب من شقتنا واذا به يترجل من سيارة تقودها فتاة أمريكية مراهقة، نظرت إلي ورفعت يدها بالتحية بادلتها التحية بمثلها بالرغم أني لم أرتح لهذا الموقف ولا لها. البنت شاحبة الوجه، وملابسها غير مرتبة، وكذلك شعرها. في ذراعيها بعض الرسومات (وشوم) كل ذلك لم يخفِ بعض الوسامة والجمال، لم أرتح لها، بالتأكيد هي لا تهمني من قريب أو من بعيد، ولكن أن تكون مع أخي فهذا يعنيني كثيرا، ببساطة لأني لا أريد أن أفقده ..
والقشة التي قصمت ظهر البعير، حضوره ذات مساء في حالة يرثى لها كان يترنح مستندا على بعض من جسم تلك الفتاة الصغيرة، لا يكاد يستقيم عندما دخل في الشقة! وهذا ماكنت أخشاه ؛ أن يصل إلى هذه الحالة أو المرحلة، لم أكن وصية عليه، ولم يكن بي قدرة على إيقاف ذلك التدهور السريع، ولكني غضبت غضبًا شديدًا عندما رأيته في تلك الحالة، صحت بالبنت ماذا حصل لأخي؟  قالت الفتاة التي معه كلمة واحدة: Overdosed جرعة زائدة. قالتها بكل برود..
زاد غضبي، ركضت نحو الثلاجة.. أحضرت كاساً من الماء البارد وسكبته بكل قوة على وجهه.. انتفض.. نظر إلي نظرة بائسة كادت تميتني ألماً.. حاول أن يتكلم جاءت كلماته متقاطعة.. أشفقت عليه، وأشفقت على نفسي.. أراد أن يرفع كفه ليضربني فاستطعت أن أتحاشاها، وأن أمد يدي إلى خده الشاحب، ثم استدرت نحو فتاته، وحاولت أن أضربها وكان صوتي يعلو مما جعلها تقاوم وترفع صوتها مثلي.. كنت أقول لها: دمرتوا أخي، وكانت ترد: أخوك ليس طفلاً، وهو الذي اختار هذا الطريق.. لم نرغمه على شيء.. ثم قالت كلمات بذيئة فاندفعت نحوها بكل ما أوتيت من قوة، ورميت بجسمي عليها فعلى صراخها، المتداخل مع صراخي، أما أخي البائس فجلس على الأريكة وعيناه الزائغتان موجهتان نحونا، والحمد لله أنه لم يحاول أن يتدخل بيننا ثانية، وإلا حدث ما هو أسوأ.
بعدها حضر البوليس الذي اكتشفنا لاحقا أن جارتنا العجوز هي من طلبته أو أبلغتهم بدعوى الإزعاج الذي نسببه لها وللجيران الآخرين وتعنيفي من قبل أخي، المهم أن البوليس احتجزنا نحن الاثنين، وترك البنت الأمريكية في حال سبيلها، وقد فهمت فيما بعد أنها لو رفعت قضية ضدي لكانت مصيبتنا أكبر ولكنها لم تفعل.. بقينا في الحجز عدة أيام، وكنت أمني نفسي أن لا يتم إشعار السفارة وبالتالي الملحقية الثقافية فنحرم من البعثة. وبدا لي أن هذا التفكير فيه شيء من الأنانية؛ إذ يعني أني مهتمة بدراستي أكثر من اهتمامي بأخي المريض، بل الذي سقط في الامتحان الثقافي، وعجز عن تجاوز الصدمة الثقافية والتكيف مع هذه المجتمع الجديد أو لنقل التعامل معه بشكل إيجابي.
بعد أن دفعنا الغرامة العامة والتعويض الشخصي للجارة العجوز التي بلغت البوليس ورفعت بلاغا ضدنا، وبعد أن وقعنا إقرارات بعدم تكرار مثل هذه التصرفات التي عدوها عنفاً متبادلاً بيني وبين أخي، وإزعاجا للآخرين. ذهبنا إلى الشقة وظللنا عدة أيام واجمين، ولا نتحدث إلى بعض. كنا نتبادل النظرات؛ نظرات فيها ألم وعتاب وشكوى ولوم وكثير من المشاعر المتباينة، ورغبة في الحديث تمنعه الكبرياء المزيفة.
في وسط ذلك الجو المكهرب ووضع أخي المزري توصلت إلى نتيجة مؤداها أنه لابد من العودة إلى الوطن فعزمت على اتخاذ قرار مصيري وصعب، الهدف منه إنقاذ أخي بغض النظر عن انعكاساته السلبية على حياتي: لابد من العودة السريعة إلى الوطن حتى لا تتطور الأمور إلى الأسوأ. ويجب أن يكون ذلك بأقصى سرعة. وكانت أولى الخطوات التي كان علي أن أقوم بها: أن أتصل على أمي وأطلب منها ذلك، ولكني خفت أن يحصل لها شيء لا سمح الله اذا عرفت السبب، وهي التي تعاني من الضغط والسكر. فقررت أن أفاتح أخي الأكبر ليفتح الموضوع مع أبي، ويتدبر أمر عودتنا، خاصة إقناع أخي. أما أنا فأستطيع أن آخذ تذكرة في أي يوم أشاء وأعود.
لم أنفذ ما دار بخلدي لأن في ذلك مخاطرة غير مأمونة العواقب فتركته حلا بديلا فيما لو عجزت عن ثني أخي عن العودة. وبدأت أحاول معه أولاً في كسر الحاجز النفسي الذي استطال بيننا وإخراجه من حالة الصمت والوجوم الذي يعتريه عندما نكون معا. ثم صرت أُذكره بمواقف مضحكة تشاركنا بها أو كنا عرضة لها في بداية حضوره إلى أمريكا، شيئا فشيئا أصبحنا نتحدث مع بعض. وعادت الأمور طبيعية إلى حد ما، فأردت أن أجس نبضه حول العودة. قلت:
- أشعر أني بدأت أمل من هذا المجتمع يا وليد، الحياة قاسية وموحشة هنا، أليس كذلك؟
- ومع ذلك فيه أشياء جميله..
- لكن فيه أشياء قبيحة أكثر، مثل الأشياء التي جعلتنا نتخاصم.
- انسي يا أسيل، بعدين هذه الأشياء لم تعد حكرا عليهم، هي موجودة في العالم كله..
- المهم أن تنسى أنت، علينا أن ننسى جميعا. ولكني أشتاق جدا إلى الوطن يا وليد..
- فضلا لا تذكريني، هناك أشياء تفطر الكبد..
- تلك لن تستمر للأبد، ونحن الذين نغيرها والوطن غالي مهما كان، أنسيت قول الشاعر: 
بلادي وأن جارت علي عزيزة
- وأهلي وان ظنوا علي كرام، أكمل البيت بتهكم، ثم أردف: أما تزالين ترددين أقوال الموتى؟!
- اشتقت لأمي وأبي وأخواتي وإخواني، اشتقت إلى بيتنا وصديقاتي، اشتقت إلى شوارعنا وزحمتها، والصحارى في ربيع بلادي وشتائه.. اشتقت إلى المكاتب والنقاشات وصخبها. ما رأيك أن نعود يا وليد؟ كنت أفكر بذلك منذ مدة..
- ما بك يا أسيل هل جننتِ؟ أين ماحدثتيني عنه؟ أين طموحاتك الكبيرة وناوياك في إكمال دراساتك العليا، والعودة للوطن محاضرة لتساهمي في إيصال الأفكار التي تؤمنين بها إلى بنات بلادك كما كنت ترددين ؟ أين وأين يا أسيل؟
- الواقع غير يا وليد، فكر فيما قلت لك ورد لي بعد يومين.. لم أعد أحتمل.. 
في اليوم التالي جاءني رده المخيب للآمال وهو أنه لا يريد العودة للوطن إلا بعد إكمال دراسته. وأنه مستعد أن يبقى لوحده إذا كانت لدي رغبة في العودة. بل إنه يريد أن يبقى ويعمل هنا بعد التخرج إذا استطاع ذلك.. هكذا قالي لي مما اضطرني إلى استخدام الخطة البديلة أو B كما يسمونها، وبشكل سريع. فبادرت بمكالمة أخي الأكبر ليخبر أبي بخطورة وضع وليد، والمأزق الذي وقع فيه. وبعدها بأقل من شهر تبلغنا خطاباً خطياً من الملحقية الثقافية يتضمن إنهاء البعثة دون إبداء أية أسباب.
فرحت بذلك، رغم أنه يحرمني من أشياء كثيرة ومن حلمي بالحصول على الشهادة من هناك؛ فمن أجل تدارك أخي وإنقاذه يهون كل شيء. أما هو فكانت صدمته كبيرة جدا، ولكنه عجز أن يتخذ موقفا حيال ذلك أمام إصرار صاحب القرار، فكانت عودتنا للوطن، أنا التحقت بالجامعة، وزاد انغماسي في العمل. أما هو فقد التحق بوظيفة في شركة أجنبية متعددة الجنسيات. وكم تمنيت حينها أن لا تكون شركة أجنبية خشية عليه من الانتكاسة والعودة لممارساته الخاطئة. وهذا ما حصل ولكن بشكل آخر أقل خطورة؛  فقد وقع في حب فتاة أمريكية تعمل معه في نفس الشركة، وقرر أن يتزوجها. ولكنه جوبه برفض كبير من قبل العائلة. ما اضطره للارتباط بها دون علمهم ليضعهم أمام الأمر الواقع. وعندما وضعت مولودها الأول وأخبرهم. لم يرضخوا فطالبوه بتطليقها، ولكنه رفض مما جعل العلاقة بينه وبينهم متوترة وشبه منقطعة حتى الآن. الشيء الجميل أنه لم يعد لممارساته الخاطئة التي تعلمها في أمريكا ما يجعلني أشعر بالراحة والفخر والثقة لأني ساهمت في إنقاذه.



Share To: