•••••••••••
المشهد محفور فى الذاكرة رغم مرور ما يقارب ال ٦٤سنة يعنى كان العمر وقتها يمكن أقل من اربعة سنوات ..
معقول فاكر مشهد فى السن ده ؟
هو طبعا مش معقول لكن لما تعرف الحكاية تفهم ليه المشهد محفور فى الذاكرة ..
واقف امام البيت متغاظ ومش عارف أعمل ايه ..
متغاظ من إيه ؟
متغاظ من اللبس اللى أنا لابسه ..
لابس ايه بقى ؟
لابس فستان بناتى ..
فستان بناتى ؟ يا خبر !!!
لأ وأزيدك من الشعر بيت ..
مع الفستان البنوتى ده كمان ودنى الشمال كانت فيها فردة حلق !!
يا لهوى .. يعنى بنت رسمى ..
ازاى وايه السبب وايه الحدوتة ؟
ولدت بداية خمسينات القرن الماضى بقرية منية شبين القناطر محافظة القليوبية وما تسألنيش عن تاريخ الميلاد بالضبط لأنى معرفوش وتاريخ الميلاد اللى فى اوراق الحكومة مش سليم بس يعنى ميفرقش كتير يمكن اسبوعين يمكن ثلاثة اللهم أعلم ..
كل اللى أعرفه انى اتولدت فى الشهور الاولى من عام ١٩٥٢ ..
طب ليه تاريخ الميلاد مش مظبوط ؟
عشان كانوا فاكرين انى هاموت زى اللى قبل منى فقالوا هنروح نعمل شهادة ميلاد ونرجع بعد شوية نعمل شهادة وفاة ؟
قاموا اشتروا دماغهم ..
لما لاقونى ماسك فى الدنيا ومش عايز أموت راحوا سجلونى فى المواليد ..
فى الأربعينات وبداية الخمسينات كان فيه ظاهرتين فى القرى واضحتين للعيان ..
أول الظاهرتين ان مستوى الخدمات الصحية كان متدنى جدا مما كان سببا فى ارتفاع معدل الوفيات بين الاطفال وخصوصا المواليد ..
ويكفى للتدليل عليها إنك تعرف إن أمى رحمها الله ولدت ١٢ طفل ولادة طبيعية لكن لم يعش لها سوى خمسة ومات لها سبعة أطفال قبل أن يكملوا عامهم الرابع ..
وطبعا أمى لم تكن حالة متفردة بين ستات القرية ..
وعشان تعرف مستوى الرعاية الصحية أقول لك الحكاية السريعة دى ..
أمى بتحكى عن الطفولة وتقول :
كان عمرك أقل من سنتين وتعبت وشكلك ساعتها كنت عايز تموت زى اخواتك ..
قعدت قدام باب البيت وحطيتك فى حجرى وقاعدة مقهورة ..
خالتك شامية أم عوض وهى ماشية شافتنى ..
مالك يا ولية ؟
قلت لها الواد بيموت ..
قعدت وأخدتك فى حجرها وقالت لى قومى هاتى الوابور وكوز الشاى وإمليه مية ..
قامت الست ولعت الوابور وفتحت باكو شاى وحطته بالكامل فى الكوز وولعت الوابور..
الشاى قعد يغلى لما بقى حبر اسود ..
طلبت كوباية وقعدتك فى حجرها وخلتك تشرب كوز الشاى الاسود ده بالكامل وانا قاعدة ساكتة ما انت ميت ميت قلت أسيبها تجرب ..
والعجيب إن خالتك شامية قبل ما تمشى كنت انت بتتحرك وزى القرد ..
والظاهرة الثانية مرتبطة بطبيعة النشاط الاقتصادى الغالب فى القرية وهو الزراعة ..
الفلاح يتمنى مراته تخلف ولد عشان يساعده فى الغيط ويزعل قوى لما تولد له بنت ..
وممكن يتجوز عليها لو خلفت بنات كتير وما خلفتش ولد ..
ولأن المجتمع الريفى يسوده الخوف الى درجة الرعب من الحسد يبقى كل ست تخلف ولد تبقى عايزة تحميه من الحسد ..
لأن الولد هنا بيمثل ثروة لأبيه وحصنا وعزوة لأمه ..
ف عادى جدا انك تلاقى أطفال القرية كل واحد منهم معلق خرزة زرقاء فى رقبته عشان الحسد ..
ليه الخرزة الزرقاء ده موضوع نتكلم فيه بعدين ..
أمى بقى عشان مات لها أطفال كتير قبل ولادتى كانت خايفة ومرعوبة ولم تكتف بالخرزة الزرقاء ..
لازم تجود ..
تعمل ايه ؟
قالت نخرم للواد ودنه ونحط له فيها حلق يقوم كل اللى تشوفه من نسوان البلد تفتكره بنت ومحدش يبص له ..
الواد كبر وابتدأ يمشى والحكاية هتتفقس ..
تعملى ايه يا ستى تعملى ايه ؟
قالت الواد يلبس فستان ..
وعليها يا مبارك والواد لبس فستان جنب الحلق ..
ولم يستمر لبس الفستان كتير بسبب اعتراضى وزعلى الدائم ..
لكن منظر الفستان مش راضى يروح من الذاكرة أبدا ..
انما حكاية الحلق دى بقى لسه معلمة وأثرها لم تمحه الأيام والسنون بل والعقود ..
حفيدى يبص على ودنى الشمال ويسأل :
جدو جدو .. هو انت كنت لابس حلق فى ودنك ؟
ماهو الخرم بتاع الحلق لسه موجود أصل الست اللى خرمته خرمته بذمة !!
أقوم أرد بالإبجاب أيوه يا حبيبى كنت لابس حلق ..
الواد مايسكتش ..
كنت لابسه إمتى يا جدو ؟
أقول له كنت لابسه وأنا أصغر منك ..
برده الواد ما يسكتش ..
وكنت لابس حلق ليه يا جدو ؟
ويحتاس جدو إزاى يشرح لحفيده الحدوتة دى كلها ...
وازاى يشرحها لطفل ماسك فى إيده تاب وشغال على النت ؟؟
وكانت دى بداية الذكريات ..
والبداية دى توضح لك حال الريف المصرى فى الأربعينات وبداية الخمسينات ..
حيث سيطر ثالوث الهلاك الجهل والفقر والمرض على كافة الأنحاء ..
رغم أن قريتنا كانت متميزة جدا عن غيرها من القرى ..
من ناحية كانت ملاصقة للبندر مركز الخدمات ومن ناحية ثانية لا تبعد عن العاصمة القاهرة اكثر من ٣٠ كيلو متر ..
فما بالك بالقرى التى تبعد عن البندر بكيلومتر واحد أوأكثر ..؟
وما بالك بالريف الذى يبعد عن القاهرة بمئات الكيلومترات ؟
Post A Comment: