ليس عسيرا على النجباء المجتهدين الوصول إلى فكر صحيح وعلم مبين ، ولا أرى مجالا للريب من نجاح الفطراء المتمدرسين وترقيهم العلمي في  حقل علم الاجتماع  وفي الفضاء العمومي ، فالأمر يحتاج إلى دافعية ومجاهدة ومثابرة وإصرار لا يعرف الهوادة واللين ، يحتاج إلى تفاعل اجتماعي وتخصصي وإلى سعي حثيث في بناء شخصية سوسيولوجية مستقلة. 
ولو أردت الدقة لقلت ، أن المبدعين في حقل علم الاجتماع والحقول الأخرى كانوا على عروة وثقى بالكتاب والمكتبات والقراءة والدرس ووسائل التواصل الاجتماعي بضروبها الطيفية وربطوا النظرية الاجتماعية بالتطبيقات الإمبريقية  وبسوسيولوجيا الحياة اليومية . 
قد لا أكون في حاجة للقول ، أن الجرأة والذكاء الاجتماعي والوجداني والانفتاح و وروح المبادرة والمثاقفة والاحتكاك المستمر بزملأ المهنة والمتخصصين  وبالمعارف والثقافات والتطبيقات الإمبريقية تصقل موهبة الدارس وتقوي مدماك رصيده العلمي والمعرفي والتطبيقي .
ولا أنسى القول ، أن التشبع بروح النقد الواعي والمتزن أمر ضروري ، لأن البحث السوسيولوجي مهما بلغ من الرصانة يحتوي  في تجاويفه الخروم والنقائص التي نحن بمسيس الحاجة لتصويبها. 
وعلى نفس المسرب من الضروري للدارس أن يجيد فن الصمت والحديث المتقن وفن الإصغاء للنقدات والملحوظات الواردة إلى عنوانه دون تأفف ويبادر لنقد ذاته قبل الآخرين بمبضع جراح ماهر .
ولعلني لا أخطئ حين أقول ، أن الطلسمات والصيغ الغامضة والقوالب العقلية الصلدة  والتطبيقات العبثية والغوغائية والسطحية تشكل طاقة خطر على المختصين في حقل علم الاجتماع والحقول الأخرى وتنتج نصا هزيلا لايحمل رنين المعدن الأصيل  ، فلابد لطلاب وطالبات العلم أن يبادروا لتعلم فنون التفكير النقدي السوسيولوجي السليم وحصافة العمل الميداني الرشيد وتحكيم النظر والبصيرة لتلافي الأخطاء والمعائب  والمنكرات العلمية الفاشية: ( قيمة التعليم الجامعي ليست في معرفة أكبر قدر من المعلومات والحقائق ، بل في تدريب العقل على التفكير ) " البرت إينستاين " .
 ولا مندوحة لي من القول ، أنه لابد للمتمدرسين أن يكونوا مشحونين بالقلق العلمي النجيب المرتوق بعقل نابه وبمهارة استخدام أدوات التحليل السوسيولوجي والدقة العلمية والأسلوبية والبحث عن وجوه الحق ومعالم الطريق المغموس بثقافة العقل والحرية في فضاء من المحبة والمسامحة والانصاف والوئام الاجتماعي والإنساني والمسكون برغبة المعرفة وإنارة مضائق الأذهان وخلس جلدة التخلف الكمي والزمني وتجنب الثقافة الاستهلاكية الهابطة التي تميل إلى تسطيح العقل والظواهر الاجتماعية وتقتل روح السؤال السوسيولوجي وحب الاستطلاع وتخلق عقليات خفيفة بلاعمق ضعيفة التحرير العلمي مرتوقة بالنقل والمحاكاة اللاواعية، عقيمة لا تكترث بالإبداع والنطاسة والنجابة والثراء العلمي ونهضة العقل والمجتمع .
وأريد أن ألفت إنتباهكم إلى أهمية استخدام الخيال السوسيولوجي في بسط الأسئلة السوسيولوجية والاجتهاد في الإجابة عليها  لترصين النص السوسيولوجي ولخلق دراسة سوسيولوجية خصبة بليغة الرأي والنظر واسعة الأفق تزخر بدقة الملاحظات وحرارة التعبير نشم فيها رائحة المعرفة والتخيل والمتانة والوهج الإبداعي  ( ويتضمن الخيال السوسيولوجي عملية الارتقاء بتفكير الأفراد فوق مستوى الأمور العادية من الحياة اليومية ) "أنتوني غدنز " ، فالخيال السوسيولجي  حسب تعبير شارلز رايت ملز :
( يتيح لنا استيعاب التاريخ وسيرة الإنسان  ومابينهما من صلات في إطار مجتمعي...وهو المؤشر لمعرفة أفضل الدراسات المعاصرة للإنسان والمجتمع ) .
وأخيرا ثمة نقطة جديرة بالتاكيد ألا وهي  ، أن التفكير السوسيولوجي المتصلب لا يترك فسحة للمرونة والأسئلة العميقة والانفتاح والإبداع والتنفيس العقلي والوجداني ويحبس إشعاعات النور وثقافة الأنوار ويقتل مهارة التحليل والتفسير ولا يساعد على تغيير جغرافية العقل  .



Share To: