١
- (أنا من نظر الأعمى)
- و ماذا يعني..؟
- (من أسمعت كلماتي)
- كلمات من..؟ و من أنت؟
هذا خطاب الموظف المسؤول الجالس خلف طاولة صغيرة تعلوها علبة سجائر من نوع (Master) و قداحة باهت لونها، و قدح شاي ورقي و مسبحة سوداء طويلة،
- و ماذا تريد هنا..؟
- فقدت هويتي..
- باسم من؟
- أبو الطيب المتنبي..
- لسنا بدائرة الأحوال الشخصية هنا، كي نصدر الهويات، و على ما يبدو أنك لا تجيد القراءة و لم تقرأ في مقدم البناية (اتحاد الأدباء).. هذا ما كان يقوله هذا الرجل الطويل ذو الشعر الناعم الخفيف..
- عليك أن تذهب هناك..!!
يا ترى..!! كيف أقنع هذا الرجل بأني أبو الطيب، و أني من شغل الدنيا و من أسمعت كلماتي من به صمم..؟!
أسئلة كانت تتزاحم في مخليتي، و بلا وعي شعوري مددت يدي أتلمس هاتفي بجيب جبتي الأيسر، حمدت الله بسري أنه ما زال ينام هناك.. لامست شاشته، أفك شيفرة دخوله باحثاً بين زحام الأسماء عن (سيف الدولة) و أردد مع نفسي: لن ينقذني سواه..
كان خلف اتصالي صوت نسائي غليظ يقول بآلية فجة:
- مكتب الأمير، تفضلوا..!!
و بصيغة الجمع:
- من معي.؟
رددت متلعثما:
أبو الطيب..
- من...؟!
كان خطاب الصوت النسائي..
أجبت:
- أبو الطيب المتنبي..
- و ماذا تريد؟
- أكلم الأمير..
شعرت أن هناك سخرية ما بقولي، فجاءني القول:
- سجلنا اسمك في سجلاتنا، و سنخبر الأمير بأمر اتصالك..
الرجل الأصلع ذو الشعر الخفيف كان يرقب حديثي و ينظر لي بعين ساخرة، فأردف:
- اغرب من هنا أيها المعتوه..! لا يصح بقاؤك هنا..!!
ضربت بكلتي يدي على الطاولة حتى تطاير ما كان يعلوها...
- لست معتوها أيها الغبي..!! أنا أبو الطيب المتنبي..
٢
(الليل و الخيل)
(القرطاس و القلم)
- لك الويل الويل..!!
يزبد فم الرجل الطويل:
- سأعيدك إلى (بطن) أمك مرة أخرى أيها الغبي..!! ممسكاً بأردان ثوبي حتى تطايرت
عمامتي على بلاط الغرفة، و راح ينادي بجهاز صغير يقربه كثيرا من فمه:
- عليكم بالحضور حالاً..!! ثمة أمر خطير هنا..!!
بين ذهولي و حيرتي، هممت ألتقط عمامتي، و قبل أن أعيدها هناك، شاهدت من خلف النافذة ثلاثة رجال بزي واحد، أحدهم يحمل بندقية أظنها (كلاشنكوف نصف إخمص)... اتجه الرجال الثلاثة مسرعين نحو الباب حيث كنت أقف، فأومأ الرجل الطويل بحركة ملحوظة موجها أصابعه الطويلة اتجاهي..
الصفعة التي وجهها أحدهم على خدي، من ثقل كفه الغليظ كانت كفيلة أن تجلسني على الكرسي المتهالك هنا، متطايرا
الشرر بين عيني مشكلا أقواسا حمراء و صفراء و أشياء لا أعرف لونها...
٣
باءت كل محاولاتي بإقناعهم أني لست مجنونا أو معتوها أو أنوي الإساءة إلى أحد، و أن كل ما في الأمر أني -أبو الطيب المتنبي-..
- فقدت هويتي، و جئت أستبدلها، و لكم أن تتأكدوا من هذا كون كل الأدباء يعرفون من أنا، و كم استعانوا بكلماتي في كتاباتهم و أحاديثهم..
ضحك الجميع بسخرية كبرى، و لم يعيروا لكلامي ثقلا يذكر، فأشبك أحدهم يدي بحركة عنيفة يقودني خارج الغرفة يتبعنا الرجلان الآخران..
٤
قادوني في ممر ضيق رطب و طويل، ينتهي بمشبك حديدي ذي فتحات صغيرة، يقف خلفها شاب مفتول العضلات بوجه حليق و شنب ناعم، راح يدور مفتاحا طويلا بخرم لقفل فضي كبير، لينز صوت باب الحديد بصرير مزعج.. أفلت يدي من كان يمسك بها موجها نحو ظهري دفعة كبرى، رحت بهولها أتهاوى وسط المكان الجديد.. رفعت رأسي أجول ببصري هنا و هناك.. الإنارة كانت ساطعة جدا رغم ضوء النهار.. لاحت لعيني سحنة أعرفها، فركتها بيدي كي أتأكد مما رأيت.. أيعقل هو ذا..؟! نعم أنا لا أخطئه.. هو لا سواه.. قطع شكوكي الصوت الجهوري الخارج من فمه:
- (قفا نبكي من ذكرى حبيب و منزل)
ليأتي آخر بصوت لم أدركة جيدا
،لاحظت رجيله و لاحظت السيد علي..
- ما هذا..؟! ماذا يجري..؟!
امرؤ القيس هنا..؟! كيف سبقني..؟ من جاء به..؟! هل فقد بطاقته مثلي..؟! أم جيء به مخفورا بتهمة تحرش جنسي..؟!
اقترب مني كثيرا، مد يده مصافحا لينهصني واقفاً
معرفا باسمه..
قلت له:
- أعرفك جيداً، لا تكمل..!!
قال:
- و من أنت..؟
قلت:
- أبو الطيب المتنبي..
قهقه ملياً قهقهة بانت من خلفها أسنانه الصفراء، و هو يقول:
- أعرفك على نزلائك هنا...
هذا الذي قربي يدعي أنه أبو نواس، و ذاك البصير يردد دوما: لا تمش..!! و يقول أنه أبو العلاء، و هذا: أبو تمام، و ذاك البحتري، و ذو الرمة، و الفرزدق، و جرير.. و راح يعدد أسماء و أسماء، لكنه ذكر لي اسماً لم يمر يوما ببالي..
حين قال لي:
- هذا يقيم هنا من قبل الميلاد، و من قبل تاريخ الأكوان..
قلت له:
- و من يكون..؟!
قال:
- (حيدر غراس)..
Post A Comment: