"انما من طبيعتنا الحركة" يقول باسكال، "الهدوء التام هو الموت."
هناك من الناس من لا يطيقون البقاء في المكان نفسه الا لفترة قصيرة. ثمة دافع غامض يدفعهم  الى الرحيل، الانتقال، من مكان الى آخر.
ما الذي يوقد الرغبة عندهم في الانتقال والرحيل؟ لماذا يكرهون الاستقرار الى هذا الحد؟
الكاتب البريطاني الراحل بروس تشاتون كان مصاباً بما يسميه بـ"فوبيا الاستقرار". لم يكن يستطيع البقاء في مكان واحد (بيت أو وظيفة) لمدة طويلة. شعور غامض كان يحضه دائما على السفر.
تشاتوين أبدى عناية خاصة بمحتمعات الرحيل والهجرة. جمع عنها الكثير من المعلومات وكتب عنها. وهو لم يقصد جماعات الرعاة التي ترحل طلباً للكلأ والماء لاجل الماشية وانما الجماعات الاخرى، التي لم تكن الدوافع الطبيعية والمادية، وحدها ما يحضها على الانتقال والرحيل وانما طقوس دينية وثقافية غامضة الطبيعة والمصدر.
بحسب تشاتوين فان البشرية، في عصورها الأولى، كانت جماعات، رحالة ومهاجرة. وان الاستقرار حصل لاحقاً مع اكتشاف الزراعة ونشوء القرى والمدن بما أدى الى الموت التدريجي لمجتمعات الرحّل. ولم يبق منها سوى الجماعات التي ما زالت تعيش في الزمن البدائي.
ولكن فوبيا الاستقرار لم تختف تماماً والرغبة في الرحيل والانتقال من مكان الى آخر ما انفكت تنتاب الافراد وان بدوافع وغايات متباينة. 
فكرّ بالرحالة الكبار مثل ابن بطوطة او ماركو بولو، بل فكّر بيسوع المسيح وتلامذته يجوبون أرض فلسطين، أو بشاعر مثل باشو او نرفال ورامبو، برجال الدين التبشيريين ورحالة الشرق البوذيين، تي اتش لورنس وغاندي وتشي غيفارا ومئات غيرهم. بعضهم ارتحل طلباً للمغامرة والمعرفة وبعضهم نشراً لدعوة دينية او استجابة لغاية الروح في عدم المكوث في مكان واحد أو من أجل قضية سياسية ما.
قد تكون الدوافع والغايات المُعلنة والواعية هي وحدها دوافع الرحيل والانتقال من مكان الى آخر. ولكن ماذا لو كان ثمة دافع أعمق غوراً من كافة الدوافع المُعلنة والواعية؟ ان هذه الأخيرة مجرد تبرير عقلاني لمخالفة مجتمعات الاستقرار وثقافة الاستقرار؟
لماذا نرحل، اذاً؟
"تضيق بنا الأرض" يقول محمود درويش، "تحشرنا في الممر الأخير/ فنخلع أعضاءنا كيّ نمر/ وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا. يا/ ليتها أمّنا/ لترحمنا أمنّا."
كالعادة، الرائع درويش يسخو بافشاء السرّ وحلّ اللغز.
الأرض تضيق بنا وتحشرنا وتعصرنا. فما الذي نحس به حينما يحدث كل ذلك؟
نحس بالاختناق طبعاً. حينما نحس بالاختناق نبادر الى الحركة، نرحل عن المكان الذي يخنقنا، ننتقل الى مكان آخر طلباً للهواء. وقد نحس بالاختناق في الاماكن الخاصة أو العامة وأيضاً في المنزل ومع العائلة والوظيفة والزواج والعلاقة العاطفية أو الاجتماعية والحزب السياسي والوطن نفسه.
لترحمنا أمنا! المقصود لترحمنا الأرض! الأرض تُسمى الأم ومن هنا المصطلح الشائع "الارض الأم". مناشدة درويش للارض، طالباً الرحمة، يضعنا على مشارف السؤال التالي:
هل الأرض هي الأم حقا؟ أم الأم هي عنصر آخر من العناصر الأربعة (التراب والماء والهواء والنار) ماذا لو أن الأم ليست هي التي تخنقنا فنفرّ منها، وانما من نطلبها، ونفرّ اليها هرباً من الاختناق؟ ماذا لو انها الهواء؟
في كتابها "نسيان الهواء في فلسفة هيدغر" تجادل الفيلسوفة النسوية الفرنسية لوسي ايرغاراي بأن هيدغر قد نسي أهم عنصر في الكون، وضرورة الكون، بمعنى أن نكون، وهو عنصر الهواء.
كان الفيلسوف الألماني الكبير قد تكلم على نسيان سؤال الكون في الميتافيزيقيا الغربية منذ افلاطون وحتى ظهوره هو المخلّص. هيدغر جادل لأجل تكريس الغائب من خلال الكلام على السكن والأقامة، وغني عن القول، الاستقرار، أي المكان أو الفضاء وفي النهاية الأرض حيث في تربتها تضرب الشجرة جذورها (وللاشجار والجذور مكانة لا تعلو عليها مكانة في فلسفة هيدغر) ولكن لماذا نسي، او بالأحرى، تناسى، الفيلسوف الكبير الهواء؟
لأن الفلسفة للمذكر والهواء مؤنث. والمذكر دائما يسعى الى قتل أو اقصاء المؤنث وفي أحسن الأحوال استعباده بما يخدم مآربه. لقد تمّ استبعاد الهواء من الفلسفة ليس فقط منذ أفلاطون وانما ما قبل ذلك. طاليس هو فيلسوف السائل، الماء، هراقليطس المتحرك النار وبارمنيدس الصلب الثابت، الأرض. ولكن لا فيلسوف هناك للهواء.
فلماذا الهواء مؤنث؟ لأنه مثل الأم، بمعنى المؤنث الأم، عطاء متواصل من دون حساب او مقابل. الهواء نستخدمه بشكل متواصل ومن دون حساب ومن دون ان نعطيه 
 الى آخر، انما نفعل طلباً للهواء طلباً للأم.



Share To: