سياسة استعمارية مُمنهجة، تدل على عَجْرفة الإنسان ذي البشرة البيضاء، الذي ضرب عُرْضَ الحائط بأبسط حقوق الإنسان وهو الذي سطَّر بنودَها، نفس السياسة تَكرَّرت مع الزنوج الأفارقة، حيث اغتُصبت حياتهم وتم ترحيلُهم غصبا عنهم من إفريقيا، وطنِهم الأصلي، إلى القارة الأمريكية لاستغلالهم بوحشية لم يُعرَف لها مثيل في تاريخ الأمم، كانوا سِلعة تُباع وتُشترى، يعملون في مزارع فلاحية مقابل وجبات غذائية تكاد تسد رمقهم.
لما تقطعت الأسباب بإبراهيم، فضل ألا يبقى مُتسكّعا في الشارع طيلة الليل، مد يده الى جيبه وسحب منه ما كان قد اِدَّخره من مال، وأجار به غرفة في الفندق المجاور لمحطة القطار فخلد للنوم حالا. لكن، كعادته، كانت ليلةً مضطربة تتأرجح بين النوم تارة وبين التفكير تارة أخرى إلى غاية شروق شمس الصباح، ماذا سيفعل الآن وقد أنفق كل ماله في إيجار غرفة لم ينم فيها ؟ دفع مائة وخمسين فرنكا ليعود إلى نفس الحالة التي كان عليها قبل دخوله إليها، حاول على قدر الإمكان تأخير خروجه من الفندق، لأنه لم يكن يدري إلى أي مكان سيتوجه، وماذا عساه أن يفعل. أول ما تبادر إلى ذهنه في تلك اللحظة، رغبتُه الملحة في الرجوع إلى أرض الوطن، كان يراه السبيلَ الوحيدَ لخروجه من المحنة التي هو فيها، ساءل نفسه مرة أخرى، ووجد أن في العودة مجازفة، لأن لا شيء يمكن فعله هناك وقد أنهى دراستَه ببلده. غادر الفندق بعد أن ارتفع النهار، لا طعام ولا شراب، هو الآن بدون مأوى، " لا راحةْ بالْ ولا راحةْ عْضام "، كما كانت تقول أمه، وتذكَّر عبارة أخرى كانت ترددها وهي : " داري مْسَتَّر عاري "، لأنها كانت تعتبر أن للسكن أولويةً قبل القُوت اليومي، لأنه يستُر صاحبه ويحميه.
توجه إلى حي باربيسBarbès الذي كان يُلقِّبه الناس بإفريقيا، أو بالاستغاثة الفرنسية Le Secours Français، يقطنه عدد كبير من المهاجرين من مختلف الأجناس والبلدان، إن بحثتَ عن لباس جديد بثمن مناسب فعليك بباربيس، وإن جُعتَ وأردتَ أن تأكلَ وجبة تسافر بك إلى مسقط رأسك فعليك بباربيس أيضا، خزان لكل التقاليد والعادات سواء من ناحية السلوك، أو من ناحية المظهر أو اللغة، حيٌّ جامع لكل المظاهر البشرية والحضارية خاصة تلك التي تتميز بها البلدان الإفريقية والعربية والآسيوية.
كانت حالة إبراهيم صعبة جدا، عليه أن يبحث حالا عمّن يمُد له يد العون في هذا المكان الذي يُذكّره ببلده، عليه أن يجد حلّا بسرعة إن أراد أن ينجُوَ ويبقى على قيد الحياة، كانت الساعة تشير إلى حوالي العاشرة صباحا عندما دخل إلى هذا الحي، وهو لم يزل يفكر فيما عاشه بالأمس، أصابته الكآبة والحزن وهو يخترق أزقته الضيقة. وبينما هو على هذه الحال، إذا به يسمع صوتا نِسْويا كأنه يناديه باسمه، لم يلتفت إليه أول مرة لأنه كان غارقا في تفكيره، والأسماء متشابهة في هذا المكان المزدحم بالنساء والرجال والأطفال والعجزة، قصد متجرا كبيرا يتدافع الناس أمام مدخله، معروفا بأثمنته الرخيصة، سمع نفس الصوت اللطيف يناديه من جديد، ظنه صوت تلك الفتاة الشقراء، الطالبة ابنة الدار البيضاء التي تعرف عليها بجامعة السوربون، اسمها " ن "، اسم يعني البهجة والوفاء، كانت تتقن تقليد فقيدة الطرب العربي السيدة أم كلثوم، كان كلما التقى بها بعثت في نفسه من النشاط والبهجة ما كان يسعده، لها قلب لطيف مليء بالرقة والحنان، رأى طيف سيدة كأنها تقصده مبتسمة، بدأت تقترب، وتقترب، وكلما اقتربت منه خاب أمله، لم تكن الفتاةَ " ن" التي كان يأمل أن يلتقي بها، إنها امرأة لا يعرفها أو ربما سبق له أن رآها في مكان ما منذ زمن طويل ونسيَها.
Post A Comment: