المقطع الاول
( القصة تجسد قدرة المراة العراقية،في الكفاح للحصول على القوت اليومي للعائلة أيام محن الحرب و حتى اليوم. ولذلك لابد ان نستذكرها اشادة بدورها.من مجموعة الجذور المتوحشة . نشرت عام 2000 )
تنفش الزوجة عهنها ( 1) متمهلة صابرة. وتغزل بصمت.  والزوج ــ رغم عوق ذراعه ــ يعمد إلى الطوي.
يلف الخيط و يفرطه من مغزله . و ينغمر في تأنيه ، لكي يسرح بعيدا، إلى تلك الأيام . وتلك الهموم . وهذي الهموم . ويطوي الغزل و يطوي و يطوي.
يريح ساقه السالمة من خدرها . يغور في الأعوام التي انقضت .
كيف نجا ؟
لقد عجز الموت أن يطويه كما طوى أخاه . هل يحسده؟
***
لم يمض على عرس أخيه ، سوى أيام معدودة ، فغادر عاجلا و إلى الأبد. تاركًا خلفه زوجة نائحة ، دون انقطاع . بحداثة سنّ . و براءة ريفٍ . و عواطف طفولة جياشة . ذات مشاعر مرهفة. كانت صادقة ببكائها . وحيرتها صادقة . وكلماتها ذات المفردات الشحيحة ، تؤجج آلام النسوة المعزيات .فيسكبن دموعهن مع نواحها وقوفا و قعودا . وتنهد ريفيّتها الطاغية بثقل أوجاعها على الأفئدة .
يأمر كبيرهم .. أن يسرعوا لكي يغادر النعش فيقول:
ــ عجّلوا يا أولادي.. كلما عجّلتم يثيبكم الله.
أفرى البكاء كبد الزوجة الشابة . و النسوة يسكبن دموعهن مع دموعها فيطغي النواح ويسفح في الفناء .
يتقابلن متحلّقات، متربعات ، يتلقّفن الحزن من قلب إلى قلب، تصدح الأصوات ، عبر حزمة من العويل . فيندفع مهووسا ، في لحظات الرحيل .
يدلف الفتية على عجل ، السيارة تنتظر قبالة الباب. يعتلي احدهم قمرتَها . يتناوش مقدمة النعش،يسحبه .. يستقر فوق مقدمة السيارة. يشد الحبل طيّا، و الزوجة مشدودة بأيدي رفيقاتها .
يشغل أبناء الحارة مقاعدهم ، ويلوّح الآخرون مودعين.. و يمضي النعش يطوي المسافات لمقبرة السلام .
* * *
قبل فاجعة أخيه.. كان الزوج في الجبهة الشمالية ، وأخوه في الجنوب . لم يخبره أحد بالمصاب . إذ لم يهتدوا لوحدته العسكرية ، بسبب تقدمها إلى العمق .
زوجة أخيه لم تعد قادرة على البقاء طويلا. أعادها ذووها إلى الريف . مضت أشهر الحداد و يزيد .تلح عائلتها لكي تتزوج . رفضت مرارا . و أخيرا .. امتثلت و اختارت برضاء تام رجلا مسنا.
ترى.. لو أن زوجته ، لم تلد أبنهما ( غنيا) ، هل تأخذ بما اتخذته زوجة أخيه؟
لو أنه رحل .. هل ترفض فتى و تعرس على رجل مسن؟
سألته الزوجة وهي تغزل :
ــ أين وصلت؟
قال : ـ أطوي.
كل واحدة.. ولها طريقتها التي تناسبها في طوي ملمّات الزمن .ربما هذا صحيح . ربما الاثنتان عالجتا الأمر بحكمة و تضحية .
زوجته هو .. مكثت أعواما عديدة ، تعالج جراحاته . كان في الحق ميتا . كافحت باستماتة ، كي تلتئم جراح بطنه. وأن تلتئم الفتحة الخارجية . لتنتهي مهمة كيس الفضلات ، و تنقضي حاجته على نحو سليم .
ذلك بفضلها ، ما كان بشرا كاملا.
بطن منخورة . وساق مبتورة من فوق الركبة . ويد مستأصلة من فوق الرسغ.وشظايا تحت جلده . هنا وهناك. وفي العمق ، مغربل، ومرصّع على نحو قاس.
استماتت لكي لا يتيتَّم ابنهما. هي ترى اليتم ، رافعا رزاياه ، يطرق الأبواب ، باباً بعد باب ويلقي بحمله دفعة واحدة .أنها تقاومه . تستميت . تسعّر طاقتها لكي لا تنحني امام كبائره ، و لكي يتعافى زوجها .
قالت لقريناتها :
ــ أريد أن أعيش أما و زوجة .. أحبل و ألد.
و ها هي : تغزل .... وهو يطوي .
24/2/2000
موسى غافل
العهن : الصوف
يتبع




Share To: