-1-الراوى
سقطتُ من فَرْجِ أمي على عتبة البيتِ , ولا أعرفُ إن كان نزولي إلى هذا العالم كان خلال خروجها من البيتِ إلى الشّارعِ ، أو أثناء دخولها البيت , ولكنَّ الذي أعرفه جيّدًا ؛ وهذا تفسير فرويديّ , أنّني تنتابني مشاعرُ متناقضةٌ تجاهَ البيتِ والشّارع , لو دخلتُ البيت لا أرغب في الخروجِ إلى الشّارع وأظلّ نائمًا في السّرير حتّى أتعفّن , وإذا خرجتُ إلى الشّارع , لا أريدُ أن أعود إلى البيت ,أظلّ أتسكّع فى الشّوارع , حتّى أُرْغمَ على العودةِ ,سواء عندما يصعقني الجوعُ أو يتفرّق الأصدقاء , أو الخوف من أبي , وما بين طرفي الخارج والدّاخل , عشتُ حياةً مريرةً , انتُهِكتْ فيها روحي , حتّى أصبحتْ هلاهيلَ , وعندما عاد أبي من الشُّغل والكوريك السّماويُّ على كتفه، وعرف - من جار لنا - أنّ أمي ولدتْ صبيًّا ، رمى السّيجارة , ودخل الشُّونة , تبوَّل , ثمَّ دخل إلى الغرفة التي نسكنها ؛ وهيّ الغرفة الوحيدة فى البيت ، بالإضافة إلى غرفة الخزين والشُّونة التى نقضي فيها حاجتنا , كنتُ ملفوفًا بخرقٍ وجلابيبَ قديمةٍ ومركونًا في زاوية الغرفة , جلس أبي بعد أن غمغم بكلامٍ لم تنتبه له أمي , فتصوَّرتُ أنّه يقول لها : هو مفيش أكل؟ , كانت منهكةً , ولكن وبّختْ نفسها أنَّها لم تُجهِّزْ له الغداء ؛ وهي تعرف أنّه يعود متعبًا من الشُّغل وجائعًا , أحضرتْ الطّبليَّة ورصَّتْ عليها جبنًا ومشًّا , ولبنًا حامضًا وجهّزتْ سلطةً , ثمَّ سحبت المشنَّة وأخرجتْ العيشَ البتَّاو ، وأشعلتْ وابور َالجازَ وأخذتْ تُقمِّرُ فيه ؛ حتَّى رصَّتْ صفًّا , فتقدَّمَ يأكل ,انتِ مش هتاكلي ؟ , أنا أكلت ؟ , وبعد أن انتهى من الأكل , وشرب الشَّاى , قالتْ له : أجيب لك الواد تشوفه؟ , قال: شويَّ , قالت له : أنا رايحة بيت أبويا ؛ أصل يزعل! ، قال : وماله ؟ ,أرتدَتْ الجلابيَّة السَّمرا وذهبتْ إلى بيت أبيها, ثمَّ عادتْ بعد السُّبوعِ , وكما تقول أمي : بعد ذهابي , طلب أبوك أن يراكَ , حملتك , وناولتك له , أخذَ ينظرُ لكَ فترةً طويلةً , ثمَّ طبعَ يده على وجهك , ذُعرتْ أمي ؛ فقد كان كفُّ يده مهبّبًا من زجاجِ اللمبة ، وتوالت الأيَّامُ : وكانَ أبي حريصًا على ألا يجعلَ أيَّ أحدٍ يراني ؛ لأنَّ معظمَ أولاده ماتوا بداءِ العينِ الشِّريرةِ , وكانَِ عندما يذهب إلى الغيط ،يضعني في خوصمِ الغبيطِ , ويضعُ الفأسَ في الخوصم الأخرِ , ثمَّ عندما يذهب إلى الغيطِ , كان يغرف طينة ,من الخزَّان ، وينثرها على وجهي ، وظلَّ يصنع هذا حتَّى دخلتُ المدرسةَ , عندها توقف عن طلاء وجهي بالطِّين ؛ ولكنْ ظلَّ يطلب من معوَّض الحلاَّق أن ينقرَ في شعري نقراتٍ تُزيدُ وجهي الكئيبَ كآبة , خاصَّةً أنَّ شعري كان أكرتَ , وعندما يلمّ شعري ويستوي ,كان أبي يسحبني من يدي ، من جديد ، ويذهب بي إلى المزيِّن فأظلُّ أبكي , وأنا أحقدُ على هذا الأبِّ القاسِي المريع , وعندما كبرتُ في السِّنِّ قليلاً كانَ أحساسي بالظُّلمِ منْ أبي يزيد ، وقد فكَّرتُ في سنواتِ الابتدائي أنْ أصبِحَ كاتبًا , وأن أكتبَ قصَّةً بعنوان :" الأب القاسِي " ، أسردُ فيها ظلمَه ولامبالاته بي , وتصوَّرتُ أنَّ هذا الرَّجلَ لا يُمكِنُ أنْ يكونَ أبي , كان لديَّ هذا التَّصوُّر , وقد تعمَّق منْ مشاهداتي للسِّينما ؛ وخاصة فيلم : الخَطايَا , كنتُ أشعرُ باليتمِ ، وإن كان أبي موجودًا ، وكذلك أمي ، كانَ لديَّ قناعة أن هذينِ لايُمكنُ أن يكونا أبويّي , كنتُ أنتظر ، وأحلم بالأب الغائب الذي سينتشلني في يومٍ من الأيَّامِ من هذا المستنقعِ ؛ الذي أعيشُ فيه , أعيشُ فى أحلامِ يقظةٍ لاتنتهي سوى بالاستغراقِ في لعبِ الكرةِ , أو السّباحةِ في البحرِ , فأيُّ أبٍ هذا الذي لا يبالي بابنه ؛ كأنّه غير موجود , فكنتُ أظلُّ طوالَ اليومِ خارجَ البيتِ ,أو أقضي الليل نائمًا عندَ صديقٍ لي , وعندما أعود في صباح اليوم التالي لا أجدُ أحدًا يقول لي: كنت فين ؟، أو: أبوك بحث عنك ، أو يضربني علقةً لأني نمتُ خارجَ البيتِ، أوْ لو فعلتُ سلوكًا منحرفًا. 










Share To: