كعادته في أغلب الأحيان .. لجأ الأب إلى تقريع ولده وهو يسعل بعصبية ويبصق . إلاّ أنه في هذه المرة ، شاهد بصاقه بدل أن ينقذف بعيداً سقط على مقربة منه بينما التصق قسم منه على ذقنه .
ـ أتلاحظ يا بن الخائبة .. أتلاحظ : إني ما عدت بقادرعلى قذف بصاقي بعيداً ؟ بينما أنت لا تحضر للحانوت لمساعدتي . لو إنني فطست .. من الذي سيدبر أمور العائلة ؟ هل تستطيع أن تُدبّر أمور العائلة ؟ أكيد لا تستطيع . بل لن تقدر أن تدبر لقمتك حتى لو بعت نفسك . إنك خَلْفَةٌ ميتة . ألامهات تلد أطفالها بطريقة ولادة الغزال : ما أن يخرج من رحم أمه حتى ينهض و يجري خلفها . أما أنت فليس سوى ذرق دجاجة .
توسلت الأم بزوجها :
ـ كفى تقريعاً .اترك الصبي لحاله .
هرول الصبي منطلقاً إلى خارج البيت و هو يصرخ .
لم يعرف في هذا الليل أين يتجه ، فانطلق متوغلاً إلى عمق المدينة ، و تلاشت إمكانية التعرف على الجهة التي توجه إليها .
ما كان باستطاعة الأب ان يهتدي اليه . و لا الأم التي لم تعرف ماذا تصنع غير أن تواصل نحيبها . في حين لم يجد الأب بداً إلاّ أن ينطلق باحثاً عنه . بيد أنه لم يستدل على معرفة الجهة التي اتجه إليها .
كانت أمسية ثقيلة على الوالدين . قال الأب و قد كلّت قواه ، محدثاً نفسه :
ـ ما الذي فعلته مع هذا اللقيط ، هل صفعته ؟ هل كلفته بحملٍ ثقيل ؟ لا بارك الله فيك . أين أجده في هذا الليل ؟ أتلاحظ أمه كيف ربّته ؟ اللعنة على والديها . لو أنني تزوجت بهيمة لما أثمرت مثل ثمرتها الخائبة هذه .
أين أجده في هذا الليل ؟ الناس ترزق بأولاد يختطفون أرزاقهم من كفّ الشيطان ، و هي تُخَلِّف ابناً كهذا ؟ أين أجده في هذا الليل ؟ من الذي أسأله ؟
وعبر الطريق المكتظ بالعربات المسرعة ، توغل باحثاً في شوارع المدينة شارعاً اثر شارع .
ـ لا بارك الله بالبطن التي أنجبتك .
كان الوالد قد أمضى ثلاث ساعات و نصف في البحث عنه حتى وجده متسكعاً في ساحة تضج طرقها بأصوات العربات المسرعة .
و في الطريق الصاخب قال الأب و هو يتنفس الصعداء ، محاولاً أن يوصل صوته إلى مسمع ولده .
ـ لقد أتعبتني كثيراً ، و هكذا انا اكاد ان أسقط على الأرض من شدة الإعياء. لماذا تفعل مع أبيك هذا ؟
كان الأب يواصل نصحه لولده الذي بدا مرتبكاً و مذعوراً و متضايقاً من كلمات أبيه القاسية . كان لومه مدافاً بالتقريع الثقيل :
ـ إنك لا تدرك حجم القلق الذي أحدثته في قلبي ، أهكذا يصنع أولاد الحلال مع آبائهم ؟ أما أوصى الله بطاعة الوالدين ؟ أبحث عنك منذ الساعة الثامنة مساءً و هاهي الحادية عشر و النصف ، لم أترك زاوية إلاّ و تحريتها . لكن الأب انساق طيلة الطريق إلى التقريع الثقيل ، دون أن ينتبه .
لماذا تصنع هذا بأبيك ؟ لماذا لا تتكلم ، هل أصبت بالخرس ؟
قال الصبي و هو يذرف دموعه :
ـ لكنك في كل مرة تأكل قلبي بلومك يا أبي .. إنك دائماً تقرعني و في الغالب دون أن أفعل شيئاً .
قال الأب و هو يكاد أن يصفعه :
ـ يعني أنا ثرثار أليس كذلك ؟
قال الصبي :
ـ لم أقل هذا يا أبي ، إنما أعني أنك لا تمل من تقريعك لي .
قال الأب :
ـ و لكنك كسول متسكع ، و أنا رجل أمضى إلى الشيخوخة ، بينما أنت تمضي يومك متسكعاً مع قرناء السوء ، ولا ترغب أن تتواجد معي في الحانوت , كان ينبغي حال انتهاء يومك الدراسي تلتحق معي في الحانوت.
إنني لم أتجرأ أن أوسعك ضرباً بينما أنت ليس سوى سمكة ميتة . هل تجدي السمكة الميتة نفعاً ؟ و الآن تتهمني بالثرثرة ، أهي هذه التربية السليمة ؟
لماذا أنت صامت و لا تفعل شيئاً سوى الدموع ؟ ما الذي أجنيه من الدموع ؟ قل شيئاً حتى تريح قلبي الذي خاب فيك .
ـ أبي .. أكاد أختنق . لماذا لا تترك لي وقتاً أتنفس فيه ؟
و انخرط بالبكاء .
قال الأب صارخاً :
ـ هل أصبحت ثقيلاً عليك و على أمك التي خَلَّفتك ؟ من أي ظهر أتيت ؟ هل تريد أن أتركك متسكعاً كما هو حالك في عمق هذا الليل ؟ أنا لا أدري أين تذهب و من أين تجيء . هل الذنب ذنبي ؟ إنه ذنب أمك البقرة التي لم تخلف لي سوى ذرق دجاجة . ما الذي علمتك إيّاه ؟ يقولون عن الأم مدرسة ، بينما أُمك مثل السلحفاة مهمتها أن تبيض و تدفنه في الرمال لكي يفقس و يمضي إلى الحياة . هل تربح من السلحفاة غير الريح الكريهة؟
ثم بعد أن أخذ نفساً عميقاً قال :
ـ أتعرف إنني لا أعرف أين تغيبت وأمضيت هذه الساعات الثلاث و النصف ؟
قال الصبي و هو يمضي بنحيبه :
ـ فقط .. كنت جالساً في الساحة .
قال الأب :
ـ لوحدك ؟ و من يدري أنك لوحدك أم مع قرناء السوء؟
قال الصبي :
ـ
ـ اقسم اني ما جاملت في حياتي قرين سوء. . بل كان يجلس إلى جانبي متسول كسيح و أعمى .
كان الأب يزيح عرقه الذي تفصد من جبينه و قفاه و هو يحاول أن يلتقط ردود ولده على أسئلته :
ـ بلغ عرقي الذي نضحته يهبط من قفاي إلى عارضي كتفي إلى مؤخرتي . أنا لا أدري ماذا كنت تصنع في هذا الليل . أتعرف ما الذي يفعله قرناء السوء في مثل هذا الليل ؟ لماذا تصمت و لا تجيبني عن حقيقة الأمر يا إبن ال...؟
أمسك الأب بخناقه ، بينما مضى الصبي يناضل لكي ينتزع رقبته من يد والده ويقذف بجسده باتجاه العربات المسرعة .
Post A Comment: