‎تماماً مثل غرفة "فان كوخ"؛ كرسي يتيم، مرآة مهشمة بلا إطار، سرير عقيم، صورة ولوحة في الأقصى، حاملة ملابس، بعض الأشياء الحقيرة على الطاولة الحقيرة، نافذة مشرعة إلى السماء تستجدي حمائم باريس وتمنحها بعض الطعام وباب.. باب وحيد وكئيب لايقرعه أحد ولا يفتحه أحد ولا يدفئه أحد.. لا يدفئه ولو جسد .

‎وخلافاً ل "كوخ " لن تفترش الأرض، لن ترسم صورتك، لن تجسد مأساتك في لوحة تعلقها على هذا الجدار. لن تبكي حظك العاثر ولا حبك الضائع ولن تأخذ السكينة الحادة لتقتلع أذنك ثم ترسلها إلى حبيبتك الخائنة. لن تقتلع الأذن المسكينة.. ليس في الدنيا ما يستحق أن تضحي من أجله بأذن ولا بظفر ولا حتى بفائض قيمة الجسد.

‎وتماماً مثل سعدي لا تملك من باريس سوى هذا المستطيل العجب -الدنيا : المتر في النصف متر، لا تملك من باريس إلا هذا التعب وهذا الحزن وهذا المستحيل. ولا تملك منها إلا هذه النافذة المطلة على النهر، الجسر والشارع الطويل.
‎وفي المساء حين تعود مع العائدين منهكاً، مهدود الجسد، لايدخل غرفتك غير البرد الذي يهاجم المفاصل المتعبة من العمل في الأوراش الفجرية ويلذغها كالإبر الحمقاء تلذغ الأقمصة القديمة، وغير الشاي والنعناع وأخلاق التوحيدي والجبنة ونبيذ "الجيلالي بوعلام" (J&B) ولا تدخلها غير اللغة العربية وبعض الأصدقاء المحكوم عليهم بالغربة الأبدية.

‎تماماً .. تماماً مثل يوسف العراقي أنت تخطو إلى الثلاثين لكنك تحس كما لو أنك تخطو إلى الستين بلا بيت ولاعنوان، بلادك لم تعد ملك يديك ولا حلم الحالمين والموت في الغربة أضحى هاجسك ومدار التفكير. وأنت هذه الليلة بلا ريب، قادر أن تكتب أكثر القصص حزناً.

‎وتماماً مثل الحلاج تشعر، تدرك أن هذه الغرفة ملآى سكاكين.. السكاكين مبثوثة في كل مكان.. على الأرضية الخشبية، على الجدران، على النافذة، على الباب وفي كل مكان .

‎تماماً كبرميل الحلاج ستكور يوماً في ساحات باريس وتقطع السين طولاً وعرضاً ويشهد الناس فتوحاتك ونبوءاتك وستمطر السماء ماءً ودماً وضفادع ويشهدون يومك.. يَشهدون ويُشهدون الآخرين. وستتمزق إرباً.. إرباً لأنك اليوم تقول :
‎- إني رأيت الله، رأيته فيك وفي الناس وفيّ، رأيته في الشجر والنهر والجسر، رأيته في الصوت والضوء والظل وكلمته.. إني ما كلمت الناس ثلاثاً ولكني كلمت الله وكلمني .

‎وتماماً مثل دنقل؛ جسد هزيل دقيق وضامر ملقى على السرير منخور من الداخل ومنخور من الخارج، منخور من الأعماق. تكره البياض. البياض موت وفناء. البياض انتهاء قبل الأوان، فجيعة الأحياء،  نذر شؤم. والسواد تميمة الناجين، تميمة ضد الزمن. لكن جدران الغرفة الساعة بيضاء، والأرضية بيضاء، والطاولة بيضاء، والأدوية التي فوقها بيضاء، والنافذة بيضاء، وستائر النافذة بيضاء، والسماء التي خلفها بيضاء والباب أبيض والشارع تحت أبيض وقميص نومك وقرص المنوم وكوب اللبن أبيض.. أبيض.. أبيض.. أبيض. حتى سواد العين اختفى خلف الجفن، اختفى ليستولي على عينيك بياض الوهن، بياض الموت .
‎ومثل أمل تصارع البياض، تعاند الفناء وتنتفض من غفوتك لتفتح لك صفحة في الغرفة الباريسية.

‎وتماماً.. تماماً مثلي أنا هذا الجسد وهذي الغرفة وهذي النافذة وهذا الباب وهذا البياض الذي لا يذكرني بأشرطة القماط ولكنه الآن يذكرني بالكفن يعرف وأعرف الليلة أن لا وطن لنا غير العيون العميقة ولا جسد لنا ولا دفء ولاأحلام. نعرف أننا لن نرتاح هذه الليلة ولن نتوسد حضن الأم. نعرف أن لا يد ستمسح على رؤسنا بحنان ولا حبيبة ستشرب من دموع أعيننا أوتمد لنا كأس ماء حين الظمإ. نعرف أننا قريباً سنموت هنا بعيداً عن هناك  سنموت غريبين وحيدين ولن نحضن تراب الزعفران.
‎سنموت تماماً كما تموت اللقالق .

‎باريس: 27-11-1998
‎بروكسيل: 30-11



Share To: