في صغري لم أكن تلميذا مجدا، بل كنت طفلا قبيحا وشرسا لا أترك الأشياء تمضي في حالها، على غرار ذلك كان الطبيب يخبر أمي الحبيبة من حين لآخر بأنني سأعاني كثيرا في فترات متقطعة إثر تلك العملية التي أجريتها في مدينة الرباط ولم أكن أبلغ من العمر حينها سوى ثمان أشهر، لا أجد الآن أي دافع لأسرد تفاصيلها الطويلة، ربما لأنها تفاصيل بائسة وحزينة جدا..
حين كبرت نوعا ما، وبالتحديد حين بلغت العاشرة من سني، ذهبت بي والدتي إلى فقيه القرية، إذ ترجته بأن يعتني بي ويقرأني القرآن كاملا، دخلت في الأسابيع الأولى، فلم أستسغ تلك الأجواء على الإطلاق، كنت أكره ذلك اللغط والتهريج والصراخ المرتفع من لدن حفظة القرآن، بعد شهر تقريبا تأقلمت مع الأجواء تماما، علمني الفقيه كيف أكتب وامسك القلم، بل علمني كيف أقرأ، لأنني لم أدخل روض الأطفال كما كان الصغار يفعلون.. وجدت صعوبة بالغة في عملية الحفظ، وتزامن ذلك مع كوني طفل كثير اللعب، بعبارة أدق كنت افضل اللعب على أن أقبع داخل المسجد أرتل الآيات، كان يخيفني الفقيه فأمتعضه حين يضرب طالبا صغيرا بعصاه السمكية، أو يعفس على أحدهم ويدميه بكلتا يديه، وعليه فإن العالم خارجا كان أرحم، بحيث يمكنني أن أفعل أي شيء دون أن يضربني احد.. إلا أن الحياة هناك في المدرسة العتيقة كانت مرعبة..
في آخر السنة حفظت ثلاثة أحزاب، وكنت أسمع الكثير من التلاميذ يتحدثون عن ألفية ابن مالك والمتون والفقه.. وكنت لا أفهم شيئا من هذا أو ذاك، أما في نهاية الصيف حيث يرحل كل الطلبة، أذهب أنا صوب بيت جدتي، طالما أحببت هذا المكان كثيرا، لأنني كنت أحس فيه بطفولتي وإنسانيتي إلى أبعد حد، ألعب في البادية دون خوف، أصنع النبال وأصيد بها دجاج الحوش، أتسلق الأشجار، أهرول في دروب المدينة بحثا عن قطع الحديد لأبيعها للعطار.. فلم تكن تخلو طفولتي من هذه السعادة الحقيقية ولكنها تنتهي حين يرحل فصل الصيف ويحل بدله فصل آخر وحياة أخرى أفضع وأمر..
حين تنقضي العطلة الصيفية يعود الجميع إلى المحراب لإتمام ما بقي من حفظ القرآن واستضهاره على الفقيه.. فيبدأ هذا الأخير بإمتحان كل حافظ، وهنا تبدأ المأساة، يكتشف صاحبنا أنني لا أحفظ شيئا من الأحزاب الثلاثة التي كنت أزعم حفظها وترتيلها، يطلع الخبر على أمام المسجد فيطردني، أحسست انذاك أن أحلاما ضخمة تمزقت داخلي، وشعرت بفرحة جديدة على أنني تحررت وسأعود للعب والاستمتاع بالطفولة.. 

لم أكن أعرف شيئا في ذلك الزمن، أقصد سنوات الألفينات، كانت الأشياء في عالمي الصغير خفية ومجهولة بطبيعة الحال، أغلب الحماقات الطفولية كنت أرتكبها دون أن أشعر بذلك؛ في بادئ الأمر تولد عندي احساس بأن الأشياء موجودة فقط لتعاش.. عشت في حي صفيحي بإحدى البراريك.. رأيت أبي المسحوق يستيقظ ليعمل، وينام ليشتغل في الصباح الباكر، كانت البراريك التي يسكنها أولئك الهاربين من الظروف القاسية عبارة عن مجمع للحثالة والمجرمين ومروجو المخدرات، ولم تكن وسطها أية شوارع او مرافق عمومية للتسلية، حين تنجب إحدى النساء طفلها في براكة متهالكة.. وحدها القابلة من تنقد الموقف، شاهدت قبل ذلك امرأة ضعيفة وواهنة تنجب رضيعها في براكة هي الأخرى. لم أكن أعرفها جيدا، كنت فقط آكل عندها الحرشة في السوق، فهربت أخبر ساكنة حي البراريك بالحادث.. 
لم نذهب للمستشفى يوما، كبرنا على أن نعالج أنفسنا بأيدينا، نصاب بالجروح والكدمات فنضع الفلفل الأحمر على الجراح كي تندمل وتشتد، تلك الحياة بدت بائسة وغير عادلة بالمجمل.. هنا أيضا كانت تنتشر الدعارة، الفتاة حينما يشتد جسدها وتبرز اردافها، لا تذهب إلى المدرسة إطلاقا، وإنما معظم هؤلاء الفتيات يفعلن ما تفعله المومسات خارج اصوار المدارس، إنهن يمارس الدعارة في سن الزهور، هكذا ينسلخن من ذواتهن في سن مبكرة جدا، وكان المجتمع السفلي يحبب جسم الفتاة الرشيقة لأنها تكون مقبولة لذى فئة عريضة من الزناة، رأيتهن يغتصبن في  براريكهن والذباب يحوم من حولهن ربما لأجل كسرة خبز أو شنتيفة لحم، والأبشع؛ أن ذلك كان تحت وصاية آبائهن الأشرار .. على أنها تظل تجارة مربحة بالنسبة لهم، بل جعلوا من بيوتهم محل دعارة دائمة ومستقلة...

كنت أهرب دائما رفقة مجموعة من الأطفال المسحوقين إلى المدينة القديمة، نهرب ونهرب، هنالك نمارس عادتنا السيئة في سرقة الحلويات من الأسواق الداخلية، لم نجد ما نؤكله، عشنا وسط مستنقع من الفساد والفقر والإجرام، نحن فقط أطفال مشردون نسرق من أجل أن نملىء أمعاءنا بالخبز، وهذا ما نفعله بالضبط، لسنا قطاع طرق او عملاء سريين نهدد استقرار الدولة، في ذلك الوقت، كرهنا كل شيء دون اسثناء، كل هؤلاء صاروا أجلاف، انسلخوا من انسانيتهم وبراءتهم، المجتمع ينبذنا، السوق الداخلي ينبذنا، حدائق الأطفال تمنعنا أبوابها من الدخول لأننا مجرد أطفال خبيثين، قررت أن انفصل عن أصدقائي في ذاك العهد سالكا اتجاها آخر؛ بعيدا عن ضمار الأشياء، عدا أني انخدعت في الأخير، كنت أهرب من حي البراريك الشاسع امتداده إلى حيت ضجيج المدينة لأحترف مهنة ماسح الأحذية ، لا أترك أي زقاق أعبره ولا أي شارع مضاء.. دائما ما اطرد من طرف أرباب المقاهي والمحالات التجارية، أحدهم سمعته يقول لي : _» إن هذا المكان لا يليق بك يا ابن العاهرة « . لا أحد كان يود أن يمسح حذائه في ذلك الوقت، فكرت ذات يوم أن امسح حذائي وأرمي عني هذه الأدوات المتسخة في حاوية القمامة، ولكنني لم أكن اتوفر على حذاء جميل، ارتدي دوما صندل وحيد وثياب ممزقة، أنا طفل شوارع لا غير... لم أعش لأرى نفسي هكذا او لأسلك هذا الطريق، أنا لست آسفا على شيء ارتكبته، لأن كل شيء كان في حياتي مجرد خطأ..



Share To: