.                          محمد حجازي

فضاء النقد
شاعر وقصيدة

النص

ياحلم بكرة لو تجينى
يفرش الدنيا حنينى 
ويغطى صوتى البراح
قوم وطبب لى الجراح
إدينى فرق السهر
إدينى فرق السهاد
رجعنى عصفور المهاد
أهش طير المسا
وازيد قوى فى العناد
أفطمنى ع الخير والصفا
من تانى أرجع مصطفى
                             شعر/ مصطفى منصور

في رحلة للبحث عن الذات الحالمة بحياة تبدد ظلام اليأس والإحباط  يطل علينا الشاعر الكبير مصطفى منصور بهذه الكلمات الرقيقة الرقراقة ... فالشاعر يعزف على أوتار إيقاعين مختلفين ، ولكنهما في ذات الوقت متفقان في إيصال الرسالة الإبلاغية التي يرجوها الشاعر من وراء هذه الرسالة ، فالإيقاع الأول هو الإيقاع النفسي متمثلا في الألفاظ التي ترسم ( الحلم ) .. ( يا حلم – بكرة – حنيني –البراح – عصفور – المهاد – الخير – الصفا ) ، فإن تكدس هذا النص الشعري القصير بكل هذه الألفاظ الحالمة تعكس بلا شك الحالة الشعورية والنفسية للشاعر ، ومن ثم تتعاضد لترسم لوحته الفنية ، فالشاعر يضغط على المتلقي من الوهلة الأولى فيضعه في عمق الرسالة النفسية التي يريد أن يتشاركها معه ، وتصدير القصيدة بأسلوب النداء يجعل المتلقي في عمق التجربة يتلقاها من الداخل لا من الخارج ، بحيث لا يقف المتلقي على الحياد ، بل إنه ينحاز مباشرة ويتعاطف مع الإيقاع النفسي للتجربة .

ياحلم بكرة لو تجينى
يفرش الدنيا حنينى 
ويغطى صوتى البراح
قوم وطبب لى الجراح

والقارئ لجملة ( يا حلم بكرة لو تجيني ) يجد أن ( لو) هنا لم تأت للدلالة على الشرط ، وإنما خرجت عن دلالتها الأصلية إلى دلالة أخرى يرمي إليها الشاعر وهي دلالة ( التمني ) التي تعد البؤرة المركزية التي تتجمع حواليها كل خيوط المعنى وتحمل كل الشحنات النفسية في النص .. حيث يتمنى الشاعر أن يأتيه الحلم غدا ؛ ليفرش الدنيا بالحنين ويملأ صوته البراح من حوله ، ويشفيه من الجراح . 
والقارئ للدفقة الشعرية السابقة يدرك على الفور الإيقاع الثاني وهو الإيقاع الموسيقي والمتمثل في القوافي الداخلية التي جاءت سلسة في موضعها ، تخدم المعنى دون تكلف أو تصنّع ، حيث قام المعنى باصطياد القافية لا العكس ( تجيني – حنيني ) ، ( البراح – الجراح ) فالقافية ساهمت بشكل فاعل في اجتذاب المدلول من النص إلى المتلقي .
وإذا كانت القافية هي الإطار الخارجي للنص ، فإن للنص إطار خارجي أوسع يتمثل في ( البحر الشعري ) ويمثله في النص ( بحر الكامل ) بما يتميز به من انسيابية وطلاقة ، أعطت الشاعر طلاقة في التعبير عن الفكر ، من خلال ألفاظ بسيطة ، غير أنها عميقة في ذات الوقت .
أما عن الصورة الشعرية ... فقد أجاد الشعر في رسم صوره الشعرية بطريقة بسيطة قريبة للذهن ، غير أنها عميقة تخدم تجربته النفسية ، وتشي من بعيد بملامح شخصية الشاعر ( البسيطة – العميقة – القريبة – البعيدة ) .

رجعنى عصفور المهاد
أهش طير المسا
وازيد قوى فى العناد
أفطمنى ع الخير والصفا
من تانى أرجع مصطفى

صورة الحلم الذي يتمنى الشاعر حضوره ، وإن كان غائبا لفظا إلا أنه حاضر في الدلالة ، فهو المفتاح لفك كود الشفرة في الدفقة الشعرية السابقة ، إذ يتمنى الشاعر أن يأتي الحلم ليعيده إلى هيئة ( عصفور المهاد ) ، فالعصفور هنا هو المعادل الموضوعي للحرية والنقاء ومن ثم جاءت كلمة ( المهاد ) مضافة إلى عصفور لتمثل الصفاء والنقاء ، ثم تأتي الصورة (  أهش طير المسا ) ، فالعصفور رغم ضعفه إلا أنه قادر بنقائه وإيمانه بالحرية والانطلاق أن يزيح اليأس والإحباط ، فالمساء هنا يرمز لليأس والخبث ، والشاعر هنا صوره بالطير ، ولكنه طير ضعيف يمكن إزاحته ومن ثم جاءت كلمة ( أهش ) لتدل على أن اليأس يمكن إزاحته .
وتأتي الصورة الأخيرة لتحقق الهدف الأساس من النص .

أفطمنى ع الخير والصفا
من تانى أرجع مصطفى

هذه الصورة التي أراد النص أن يلقي بها في طريق المتلقي منذ البداية ، ولكنه أجلها للنهاية بعد أن مهد لها طريق الوصول ، لتصل في النهاية بلا تعب ولا قلق . 
فقد أراد الشاعر أن يصل بالقارئ إلى مفهوم عريض ... من خلال تعميم الخاص ، فقد أراد الشاعر من الحلم أن يفطمه على الخير والصفاء ؛ ليعود إلى أصله الخير الصافي ( مصطفى ) ، وإن كان الشاعر هنا يقصد نفسه ( مصطفى منصور ) ، إلا أنه قصد من وراء ذلك مدلولا آخر وهو دلالة  ( الصفاء والاصطفاء ) .
وفي النهاية ... يمكن القول أن الشاعر انطلق من تجربة شخصية ، وأراد منها أن تكون عامة تصلح لكل متلق يقف على قراءة النص أو الاستماع إليه ، ولعل هذا هو ديدن الشعراء الذين يشاركون المجتمع همومه ، أفراحه وأحزانه ، وهذه النصوص الذاتية العامة دائما يكتب لها البقاء.

                           مصطفى منصور




Share To: