حين ينام "مروان" لا يحلم بأكثر من فراش وثير..!
يرى "مروان" يوميا صنوفا من التنكيل بإنسانيته، صحيح أنه لم يعد يبالي كثيرا بصراخ رئيس الوردية، ولا بحرمانه وزملائه من العمال من ساعة الاستراحة التي تنص عليها القوانين دون أن تطبقها، ويرى في هذا كله ضريبة لا بد أن يدفعها من أتقن فن التنفس بلا حياة.. والأكل بلا عيش.. والتنهد بلا حب تأتي به الأيام، لكنه كأيٍ من تلك الكائنات التي تمشي على إثنين يحلم!!.. فهل في الحلم جريمة؟!
حتى لو حلمت بأنك تحكم بلادك ذاتها، فلا أظن أن في الأمر جريمة..!
عاد "مروان" في ذلك اليوم منهكا، فرمى بجسده المتعب على أريكته ذات الـ 678549 مسمار، شعر بنخزاتٍ لخمس مسامير على الأقل في ظهره، لثوانٍ أغلق عينيه متألما وأطلق سُبّةً بذيئة.. ثم استوى في جلسته كمن اعتاد أمرا كهذا، أدار عينيه في حظيرة الخنازير التي يسكنها متسائلا إن كان بإمكانه إصلاح حالها لتبدو أفضل قليلا.. أشبه بحظيرة للثيران على الأقل!!.. تركز نظره على منضدة صغيرة أمامه، حيث ترقد مجلة من تلك المجلات المستهلكة التي يشتريها من العم "صالح" العجوز على ناصية شارعه، أراد الاعتدال ليتناولها لكن عقله المكدود طرد تلك الفكرة قبل أن يصل الأمر لأطرافه، أخيرا تغلّب على تعبه وتناول مجلته التي اشتراها قبل يومين مؤجلا قراءتها لما بعد..
ما أجمل تلك الصور!!.. رأى على الصفحات الصقيلة صورا لفندق ما من الفنادق السياحية في مدينته، هو فندق فخم لا يؤمُّه سوى من يطمئنون إلى أرصدتهم الهانئة مثلهم في البنوك، قلّب في أوراق المجلة متلهفا حتى عثر على ضالته، رأى صورا لغرف الفندق من الداخل بأثاثها الفاخر وفراشها الوثير بملاءاته ناصعة البياض، شعر بثقل في جفنيه وأن الضوء الباهت الساقط من سقف الحجرة يحرقهما، فأغلقهما مسلما للإنهاك أمره، فقط ليلج في حلم جديد من أحلامه التي لا تمل الفرار من الواقع، رأى نفسه يدلف إلى إحدى غرف الفندق ذاته آمرا خادم الغرف بوضع الحقيبة والرحيل ببقشيشه السخي، ثم يخلع نعليه الفاخرين ويضع سترته الأنيقة على حامل الملابس بجانب الدولاب، ويرمي بجسده على الفراش الناعم الوثير شاعرا بأنه يغوص فيه حتى القاع.. يغوص بلا توقف!
من الغريب أن تحلم وأنت نائم.. بأنك نائم، لكن الحقيقة أن لا دور للمنطق في عالم الأحلام المتشابك المعقد، كل ما تراه في الحلم خارج عن حدود المنطق يلعب على الحد بين الخيال والرغبات الكامنة، المهم في الأمر أن لا يد لك فيما تراه، لا تملك أن تمنع نفسك من الموت إن متّ، ولا تستطيع أن تأخذ معك كنوز سليمان إلى عالم الواقع إذا ما وجدتها سابقا من هم قبلك، لهذا كله.. استيقظ "مروان" ليجد أنه لا يزال في مكانه، كل شئ كما هو لم يتغير.. رائحة التراب في ملابسه وأصابع قدميه ما فتئت تشكو قلة التهوية طيلة النهار، فقط على ثغره تلاعبت ابتسامة غامضة لن يفهمها سواه..
في اليوم التالي طلب "مروان" من رئيس النوبة مد نوبته ست ساعات أخرى ليعمل ثمانية عشرة ساعة، حذره رئيس النوبة أن هذا سيضر بصحته، لكن "مروان" كان مصرا كجباة الضرائب، قال رئيس النوبة محدثا نفسه وهو يرقب ظهر "مروان" الذي يبتعد عائدا إلى عمله: “هذا الفتى يمضي إلى حتفه كأبطال القصص”..
بعد ثلاثة أشهر من الشقاء المماثل كان قد جمع مبلغا لا بأس به أبدا، لكنه كان في حالٍ يرثى لها وقد بلغ منه التعب مبلغه، طلب من زميل له يقاربه حجما وأبعادا أن يعيره بزته التي ارتداها يوم عرسه، وطلب من آخر حذاءا جيدا يصلح لمناسبة ما وحقيبة سفر محترمة، سخر منه زميلاه ظنا منهما أن "مروان" على موعد غرامي، هو وحده كان يعلم أنه على موعد غرامي فعلا.. لكنه غرام من نوع آخر تماما، ذهب إلى بيته بعد انتهاء عمله، حلق ذقنه وأخذ حماما ساخنا، وحين خرج وقف أمام المرآة يعدل هندامه، ثمة بقعة من العصير الرخيص على القميص، لا بد أنها علقت هناك عندما تظاهرت عروس زميله بالسعادة والحب وهي تُرشفه العصير بالكأس المذهّب الذي يفتتح به العروسان حياتهما الزوجية.. الخائبة غالبا، هو متأكد.. نعم هي تظاهرت..
”من تلك الحمقاء التي تحب وغدا كهذا؟ "... كذا قال في نفسه وهو يعدل ربطة العنق كما علموه..
دلف "مروان" إلى غرفة الفندق - حقيقة لا حلما هذه المرة - وخلفه سار خادم الغرف محنيا رأسه في احترام، وسأله إن كان يريد شيئا آخر، إنتظر قليلا لكن "مروان" كان مأخوذا لم يحرّ جوابا، فوضع هذا الحقيبة من يده وخرج ساخطا، أدار عينيه فيما حوله.. كل شئ في مكانه كما رآه في صور تلك المجلة، التلفاز المعلق كأنه صورة زيتية، المزهرية التي تحوي زهورا يانعة على منضدة تتوسط الغرفة، الفراش الوثير المرتّب كأنما لاستقبال وزير ما، الشرفة التي تطل على مسبح بديع تسبح فيه بعض الحوريات في أثواب السباحة القصيرة، هذا كله لم يكن يغريه أبدا.. النساء لم يدخلن يوما في مخططات حياته.. بل لم يستشعر في نفسه المتعبة ميلا لهن، أزاح عن رأسه تلك الترّهات وأسدل ستارة الشرفة، ثم نضّ ثيابه معلقا إياهم على المشجب بجانب الدولاب، قام بكل ما رآه في الحلم تلك الليلة منذ أشهرٍ ثلاثة، حتى لقد بدا له المشهد أشبه بنوبة من “الديجافو” التي تكرر ما تراه في عقلك الباطن فيبدو كأنه ذكرى بعيدة، أخرج منشفته من الحقيبة ودخل الحمام شاعرا بأن روحه ترقى وترقى.. حتى لتكاد تلامس السماء طولا..!
وتحت الماء المنهمر تمنى "مروان" ألا يخرج من هنا أبدا !!.. تخيل أن تستحم في حمام كهذا، فيبدو ذلك الدلو الذي كنت تملؤه ماءً لتسكب ما فيه على أم رأسك ذكرى بعيدة.. بعيدة..
بعد طقوس الحمام سمع "مروان" طرقا على باب حجرته، فتح الباب ليجد الشاب المسؤول عن خدمة الفندق يدفع أمامه عربة عليها صحاف مغطاة، رصّها الشاب على المنضدة في وسط الحجرة باحتراف، وتمنى للنزيل الكريم عشاءً هنيئا وخرج، للحظات اشتم الروائح الزكية التي تنبعث منها مغمضا عينيه، ثم اتجه إليها وأزال الأغطية المعدنية الرنانة.. لتظهر من تحتها أطايب الطعام التي تُقدم في مكان كهذا، تشمّم الهواء للحظات أخرى ثم شمر عن ساعديه، وارتفعت أصوات القطع والقضم والبلع..
وحين انتهى "مروان" من طعامه.. وحين اتجه للفراش.. وحين غاص فيه للقاع كما كان يحلم، نام كرضيع تهدهده أمه بعد رضعة دافئة..!
في المنام لم ير ما يراه دوما.. كان ما راوده غريبا إلى حد كبير، رأى غرفته الحقيرة بكل تفاصيلها.. فيما عدا أن المخلوقات التي كانت تشاركه حيز الفراغ القذر ذاك تضخمت إلى حد مخيف، كان يرى الفئران التي تعيش في صدوع الجدار وقد أصبحت في حجم الكلاب، والعناكب صارت تقارب القطط حجما.. حتى البعوض ظهر ضخما مخيفا، ثمة من يطرق بابه فيتجه إليه محاذرا أن يصطدم بتلك الكائنات التي تعجّ بها حجرته، يفتح فيطالعه وجه جندي صارم لا يعرف المزاح، الجندي يكلمه بالألمانية التي صار يفهمها فجأة دون مقدمات، الفوهرر يريده !!.. ماذا يريد "هتلر" السفاح من "مروان" البائس الذي لم يحلم بمقابلة رئيس البلدية يوما؟!
يرى نفسه فجأة أمام "هتلر" بشاربه القصير المضحك وهو يلومه.. على أي شئ؟.. على خسارة "ألمانيا" في الحرب طبعا.. ظننت هذا واضحا !!.. حكم الإعدام.. صوت الرصاص.. ثم لا شئ..
يختفي هذا كله ليرى نفسه في "الكولسيوم" العظيم.. رمز "روما" العتيقة.. الأرينا التي كان يتسلى حولها الساديون، ممن يهوون مراقبة الوحوش وهي تلتهم المسيحيين الجدد، ثمة أسد يركض نحوه ثم يعتلي صدره، يزأر كأنه لا يريد لصوت آخر أن يطغى على سمع صاحبنا، ثم تتجه أنيابه للنيل من نحره..
"ستالين" منزعج منه يبغي إلقاءه في سيبيريا.. "روزفلت" الرأسمالي اللطيف يقدم إليه يده لينتشله من وكر الشيوعيين..
"جيفارا" و "كاسترو" يرحبان به كعضو جديد في جبهة معارضة "أربينز"، فجأة يرى نفسه مرتديا البدلة البرتقالية المميزة لنزلاء "غوانتانامو"..
أخيرا يستيقظ" مروان" من نومه في تلك الساعة المبكرة غارقا في العرق، يجلس على طرف الفراش محاولا استيعاب من هو وماذا يفعل هنا، نهض.. لبس ثيابه كالمخدر، ثم أنه حمل حقيبته مغادرا الفندق الفخم إلى الشارع الرطب البارد في تلك الساعة، لا يشعر أبدا بلسعة البرد كأنه فقد الحس كما فقد النطق..
صاحبنا عاش عمرا في تلك الحجرة الحقيرة يرى أحلام الدعة، حتى إذا ما لاحت هناك فرصة ليعيش ليلة من أحلامه.. خرجت كل شياطين الأرض لتنال من راحته..
وهل تليق الراحة بشقيّ؟!!
___________________________________
Post A Comment: