جلست صامتة في أبعد صحراء ، تحدّق في الأفق ، وترغب في لا شيء ، سوى أن تنظر إلى داخلها بعين صادقة ، وتستعيد الزمن الذي انساب من بين يديها على غفلة منها ، وفي الأثناء قفزت تلك الطفلة التي كانت بالأمس تلاعب الدُمى ، وتداعبها أحلام الحياة ، فأيقظت فيها مكامن الألم ، وحركت في قلبها المُثقل ألف سؤال ، كانت مغمورة بالأسى ، وكلّ ما فيها مكسور ، وكان الرجاء أبعد ما يكون عنها ، فلطالما صرخت مستغيثة ، حتى لم يعد صوتها يخرج من صدرها ، وكأنّ الدنيا صمّت آذانها ، وكأن العالم لفظها من إحساسه ، وها هي تجلس على قارعة العمر ، تنتظر محطة القطار الأخيرة ، بعد رحلة بلا معنى ، فهي لم تذق يوماً طعم الكرامة ، ولم تختبر مرة شعور السيطرة ، كانت دائماً موجَّهة عن بًعد مثل الروبوت  ، فلم تقرر مصيرها يوماً ، حتى هجرها المصير ، وضاعت كينونتها ، واختفى صوتها إلّا من أنين مكبوت كبركان خامد ، وتلاشت ملامحها حتى عن مرآتها ، ولم يبق في ذاكرتها سوى تلك الكدمات المزرقة التي لم تكد تشفى ، حتى تعاود الظهور ، حتى كلمات التحقير كانت مصرّة على طرق زجاج الذكريات الهشّة ، فتلقي بها في واد سحيق من الموت بين الأحياء ، لم يكن في الكون ما هو قادر على بعثها من جديد في هذه الحياة ، لكنها نوبات الأمل التي يصطحبها الإيمان ؛ تنتابها دون أن تقصد ، فتتخلل وجهها الشاحب ، فيضيء لبرهة قبل أن يعاودها الواقع بضرباته الموجعة ، فيلقيها حطاماً على أطراف تلك الصحراء .

فأيّ رجولة تلك التي استقوت بذراع الذكورة على ذلك الجناح الليّن ، وأيّ بطولة تلك التي استحقها الرجل الذي لم يعي معنى الأنوثة ،  فاغتالها مختالاً بسكين فكره المُعوّج ، وأي نقص ذلك الذي يُستكمَل باستضعاف أنثى ، وامتهان كرامتها ، وكأنّ دستوراً من حطام تمّ إقراره في مجالس شُيَّدت من بقايا الجهل  وطفولة ملتوية  .

صورة  من خلف جدار الإنسانية ، تلتقطها عيوننا يومياً ، ونستمر بعبور الرصيف ، مخلّفين وراءنا ركاماً يتعاظم حجمه يومياً ، نحسبه حصى صغيرة تتناثر على الطريق ، وهو جلاميد هائلة تربض على أنفاس المجتمع بأسره ، نساء معنّفات ، وأخريات ضمهنّ التراب باسم الشرف ،  أسر مفككة ، وأطفال تتشوّه طفولتهم يومياً ، والأغرب أن تكون المشكلة عابرة لجغرافيا الأرض ، ومستقرة في صميم العقل البشري على اختلاف الاعتقادات والثقافات ، فلا يكاد مجتمع يخلو من تعنيف المرأة والإساءة لها ، وبالرغم من الشوط الطويل الذي قطعته المنظمات الإنسانية ، وبالرغم من التشريعات التي أقرت حقوق المرأة ، وعملت على حمايتها من العنف ، إلّا أنّ المشكلة لا زالت موجودة ، بل إنها تتخذ منحنى حادّاً في فترات الأزمات وازدياد الضغوط ، ولهذا فقد أطلقت الكثير من المنظمات العالمية ، العديد من المبادرات الساعية لوقف العنف ضد المرأة ، وهو ما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة لتخصيص يوم 25 / تشرين الثاني من كلّ عام ؛ يوما دولياً لمناهضة العنف ضد المرأة ، هادفة إلى رفع مستوى الوعي العالمي حول هذه القضية .

والعنف سلوك يؤدي إلى الأذى ، أو يهدف إليه ، وهو يتخذ ضد المرأة أشكالاً تتفاوت بين العنف الجسدي الذي يُعتبر أكثر أشكال العنف وضوحاً ، ليرتبط به تلقائياً العنف اللفظي ، فتكون النتيجة عنفاً نفسياً ينتج عن تضاؤل حجم ثقة المرأة بنفسها ، أو التقليل من شأن قدراتها ، كما أن محدودية قدرة  المرأة على الحصول على الأموال ، والتحكم في مستوى حصولها على الرعاية الصحية ، أو التعليم والعمل ، إضافة إلى عدم مشاركتها في اتخاذ القرارات المالية ، يُعتبر عنفاً يًدرج تحت النوع الاقتصادي منه .

والحقيقة أنّ سلوك العنف يأتي مدفوعاً بعدد من العوامل ؛ إذ يُعتبر تدني ضبط النفس ، والعجز عن مواجهة المشاكل بروية وهدوء ، من الأسباب الذاتية التي ينتج عنها شخصية تميل إلى انتهاج العنف أسلوباً في التعامل ، كما أنّ سلوك العنف يرتبط بظروف النشأة منذ الطفولة ، فنموّ الطفل في بيئة أسرية مفككة ، ضعيفة الروابط ، تخلو من التوجيه والإرشاد ، ويتعرض فيها الطفل للإيذاء البدني والنفسي ، ويشاهد فيها ممارسات العنف بين والديه ، تشكّل جميعها فرصة كبيرة لاتباع نهج العنف في المستقبل ، كما تؤثر التربية الخاطئة في الإغداق على الطفل واتباع أسلوب الدلال الزائد في تنشئته ؛ في بروز خصال الأنانية ، والتكبّر، وضعف مهارات التواصل وبناء العلاقات الاجتماعية على نحو يقدّر الآخر ، ويحترم احتياجاته .

كما يلعب ضعف أو غياب عامل التوجيه الديني ؛ أثراً بالغاً في سلوك العنف ضد المرأة كزوجة أو ابنة ، وربما اتجاه المرأة بشكل عام ، وإذا ما أضيف  فقدان الوازع الديني كمصدر للقيم ، إلى وجود بعض المعايير الثقافية المجتمعية التي تُحدد فرص المرأة في العمل والتعليم ، وذهاب بعض الآراء نحو تسويغ العنف ضد المرأة ، بل واتهامها بالتسبب في تعرضها للعنف ، لا ستفزازها الرجل وإثارة غضبه ؛ وإعطائه الحق بضربها وتوبيخها لتأديبها ، سيمنح الشرعية بشكل غير مباشر لهذا السلوك .

 إضافة إلى ما يساهم به الدافع الاقتصادي من ضغوط الحياة ، لا سيّما في فترات الأزمات التي تُفقَد فيها الوظائف ، وتتدنى فيها الأجور ، ما يهيئ لمشاعر الغضب ، وفقدان الضبط الانفعالي الذي ينتهي بسلوك العنف ، فقد أثر فيروس الكورونا على الجميع دون تمييز ، وأكثر ما يُخشى أن تتحمّل الفتيات والنساء الوزر الأكبر لتبعات هذه الجائحة ، فقد ازدادت معدلات العنف الأسري في العالم كله ؛ نتيجة إجراءات الإغلاق الشامل والجزئي والتعايش القسري ، وتصاعد حدة التوتر بين أفراد الأسرة بسبب انعدام الأمن الغذائي ، والمخاوف من التعرض للعدوى ، الأمر الذي ساعد على زيادة أعداد النساء المعنّفات ، وأوجد صعوبة في طلب المساعدة أو تلقّيها خلال الجائحة ، كما أنّ عمل الكثير من النساء في مجال الرعاية الصحية زاد من فرصة تعرضها للإصابة بالمرض ، الأمر الذي أثقل عليهنّ جسدياً ونفسياً ، كما ساعدت ظروف الإغلاق على فقدان العديد منهنّ مصدر الدخل أو الاقتطاع الحاد منه  ، وهو ما وضعَهنّ في إطار العنف الاقتصادي ، وتبعاته الاجتماعية والنفسية ، إضافة إلى تفاقم حجم الأعباء المُلقاة على كاهلها ضمن الصورة النمطية التي تحصر مهمة تقديم الرعاية في المرأة غالباً ، فأعمال المنزل ، وممارسة الدور الوظيفي ، ومتطلبات العناية المنزلية ، وإجراءات مواجهة المرض والوقاية منه ، ورعاية كبار السن ، أو الأفراد المصابين في المنزل ، وتوفير بديل لرعاية الأبناء بسبب إغلاق دور الحضانة ، والقيام بأعباء تدريس الأبناء بسبب إغلاق المدارس ، جميعها تُعتبر عوامل تضغط بعنف على نفس وجسد المرأة ، وتهدد الجهود التي بُذِلَت لعدة عقود ، وقد يعود بها الكورونا إلى الوراء بمسافات شاسعة .

   ولا يمكن تجاهل الدور الذي تلعبه بعض أعمال الدراما التي تصوّر العنف كسلوك مقبول ، وتصدره إلى أذهان الأطفال عبر بعض البرامج والأفلام والمواد الإعلامية المختلفة ،  وهي تكرّس لصور نمطية عن الصراع بين الرجل والمرأة على السلطة ، واختزال معاني الرجولة في ضرب المرأة ومعاملتها بعنف وامتهان ، وحرص بعضها على إظهار المرأة الأكثر حظاً على أنها مُخِلّة بمنظومة القيم ، وتتمرد على قواعد المجتمع ، وتُعلي بالمقابل من قيمة المرأة المغلوب على أمرها ، والصابرة على ما تُلاقي من ضروب العنف في سبيل بقاء أسرتها ، وهو ما ينعكس في صمت نسبة من المعنفات في الواقع ، حيث تنتهي مشكلة 70% منهنّ بحلول اجتماعية مُسَكِّنة ، وعدم اللجوء للجهات المختصة .

كما أنّ المجتمع في نسبة منه يعاقب المرأة بسبب مطالبتها بالمساواة مع الرجل ، وإرساء حقوقها في كافة التشريعات ، إذ تُشير تقارير إلى أنّ اقتحام النساء للمجال العام من خلال الدراسة أو العمل ، ولّد مقاومة مُقنّعة وغير مُعلَنة من قبل بعض أفراد المجتمع ، فظهرت أنواع من العنف الذي يُمارَس ضد المرأة خارج دائرة الأسرة في الأماكن العامّة ، بشكل لفظي ، أو نفسي ، أو جسدي ، أو جنسي ، أو إداري ، أو مؤسسي .

وعلى الرغم من وجود المواد الدستورية ، والنصوص الشرعية و التشريعية ، والكثير من القوانين والمعاهدات المُصادق عليها  ، وما يترتب عليها من إجراءات وتدابير ؛ إلّا أنّ الواقع لا زال يتصادم وهذه القوانين والتشريعات ، ويقاوم تطبيقها ، ما يكشف عن تأخر في وتيرة تطوّر الأذهان والقناعات والممارسات ، عن السرعة التي تطوّرت فيها النصوص التشريعية .

إنّ امتهان المرأة ، وتعريضها للضرب ، والإمعان في تهشيم وجودها  ، يُفقدها الشعور بإنسانيتها ، ويُخّفِض مستوى تقديرها لذاتها ، وإلى جانب ما يلحق بها من آثار صحية ناجمة عمّا تعاني من آلام الضرب ، فإنها تواجه آلاماً أشدّ في نفسها ، والتي تبدو عليها من خلال مظاهر القلق والاكتئاب ، والرغبة في اعتزال الاخرين ، وإهمال نفسها، و عملها، وأطفالها ، وقد تُنهي مأساتها بالانتحار في بعض الحالات .

لذا فإنه ينبغي بذل المزيد من الجهود للتصدي للعنف ضد المرأة ، بدءاً من المناهج الدراسية ، واتباع الخطط الاقتصادية التي تمكّن المرأة ، وتساعدها على تعزيز دورها في المجتمع ، وتفعيل استراتيجيات المساواة بين المرأة والرجل ، وتنمية مهارات التواصل بينهما ، وتنفيذ البرامج التي تُمهّد لتكوين الأسرة ، وعقد دورات تدريبية إلزامية للشباب المُقبل على الزواج لتعريفهما بأصول العلاقة الزوجية ، وتثقيفهما بالنصوص الشرعية والتشريعية الخاصة بذلك ، وتدريبهما على كيفية مواجهة مواقف الخلاف ، وكيفية حل النزاعات ، وكما تواجه الدول كافة أشكال السلوكيات السلبية كالتدخين والإدمان ، فإنه ينبغي تصويب ثقافة المجتمع الخاصة بنوع الجنس ، وتنمية استجابة القطاع الصحي لحالات العنف ، كذلك يجب تصحيح مسار الأعمال الدرامية ووسائل الإعلام المختلفة ، بالتركيز على قيم الرحمة ، وأدب الحوار ، واحترام المرأة وتقديرها ، والابتعاد عن المبالغة الهادفة إلى اجتذاب المشاهدين .

ربما يكون من التكرار القول بأنّ المرأة هي الأم والزوجة والأخت والابنة ، وبأن الرجولة ليست على صراع أزلي مع الأنوثة ، فهنّ كلّ المجتمع ، وعليهنّ يُعقد الأمل ، وإنّ استقامة خط الحياة ، وتوازن مركبها ؛ لن يتأتى بكسر الضلع الأهم في جسم المجتمع .



الدكتور عامر العورتاني 

أخصائي علم الاجتماع

Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com





Share To: