بعد إجماع المجتمع الدولي على احترام الإنسان إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وتوقيع الكثير من المواثيق والاتفاقيات التي تُقر بحقوق بني آدم من العمال والنساء والأطفال ، كثرت الأيام التي تحتفي بالمُنجز الإنساني العظيم ، وتُذكّر بالقضايا الإنسانية العالقة في ثقب البشرية الأسود ، فهناك يوم للمعلم ، وهناك يوم للمرأة ، ويوم للأم ، ويوم للأب ، وهناك يوم للأسرة ، ويوم للطفل ، ويوم للعمّال ، ويوم للمسنين ، ويوم للعنف ويوم للعدالة الاجتماعية وهناك يوم للفقر ، ويوم للقضاء على التمييز العنصري ، ويوم للملكية الفكرية ، ويوم لحرية الصحافة ، ويوم عالمي للزيتون ، ويوم لإحياء ذكرى الحرب العالمية ، وضحايا الرق وتجارة البشر، ويوم النحل العالمي ، ويوم للتنوع الثقافي ، وآخر للتنوع البيولوجي ويوم للامتناع عن التدخين، ويوم لضحايا العدوان من الأطفال الأبرياء ، ويوم لسلامة الأغذية ، ويوم لمكافحة عمالة الأطفال ، وهناك يوم دولي للأرامل ، ويوم لمكافحة المخدرات ، ويوم للكويكبات ، ويوم للتعاونيات ، ويوم لمكافحة الاتجار بالبشر، وهناك يوم للإبداع ، ويوم للفتاة ، ويوم لأُمِّنا الأرض ، والقائمة تطول بمختلف القضايا العالمية ذات الأهمية التي يسعى المجتمع الدولي إلى تثقيف عامة الناس حولها ، وتعبئة الموارد والإرادة السياسية لمعالجة مشكلاتها ، والاحتفال بالإنجازات الإنسانية وتعزيزها في مجالاتها ، وهو ما جعل الأمم المتحدة تتبنى الكثير من الأيام التي سبقت تأسيسها كأداة قوية لنشر الوعي ، والسير في خطوات موحدة في مختلف المجتمعات للارتقاء بالإنسان وعلاقته بالآخر والبيئة المحيطة ، وهكذا تستعد المؤسسات والجمعيات ومختلف الجهات ذات العلاقة بأي من الأيام الدولية ؛ للاحتفال وإعداد النشاطات اللازمة للتذكير والتثقيف والتوعية ، ليتحوّل بعض مما قيل في كلمات المسؤولين إلى برامج عمل خجولة وبطيئة على أرض الواقع ، وينتهي بعضه الآخر محفوظاً في سجلات الأرشيف لرفع العتب إذا ما اقتضى الحال يوماً .
وقد يتساءل المرء حول العلاقة بين كثرة الأيام الدولية التي تتبنى الكثير جداً من القضايا الإنسانية ، وطبيعة المنحدر الذي تسقط فيه الإنسانية يومياً مع كل فشل ، أو انتهاك لكرامة الإنسان ، أو المساس بأبسط حقوقه ، فنحن نحتفل بالفتاة في يومها ، لتُغتال براءتها وطفولتها في اليوم التالي بإسم التحرش والتنمر والعنف والتمييز في الجنس ، ونحتفل بيوم المرأة ، لنصادر في اليوم الذي يعقبه حقها في الطموح و اتخاذ القرار ، والمشاركة في الحياة العامة ، ونزيد أعباءها ، ونُسند المزيد من الأدوار الإضافية لها ، فنستهلك مخزون عاطفتها على آخره ، ونتركها حبيسة للصورة الجمعية التي اختارها لها المجتمع ، الذي يواجهها بالعنف ، واللوم غالباً ، وفي يوم دولي آخر نحتفل بالتعليم ، وعلى الطرف الآخر من منصات الاحتفال يجلس آلاف من الأطفال والشباب الذين شردتهم الحروب ، وغرس الفقر مخالبه في أعمق تفاصيل حياتهم ليحرمهم حقهم الطبيعي في التعلّم واختيار شكل المستقبل ، وفي يوم واعد آخر تستيقظ البشرية على أنباء الاحتفال بيوم العمال ، فتنهال التهاني عليهم ، وتتغنى بسواعدهم القوية ، وفضلهم على خطط التنمية ، ومشاريع البناء والتحديث مئات القصائد والخطابات ، وما أن تلوح في الأفق بوادر أزمة ما اقتصادية كانت أو صحية ، حتى نضرب بكل ما تغنينا به عبر مكبرات الصوت والإعلام الاجتماعي عُرض الحائط ، فيصبح تسريحهم التعسفي ، وتخفيض أجورهم طوق النجاة الذي يوصلنا إلى برّ الأمان ، ونحن الذين أطلنا إعراض الوجه عن بطالة تراكمت حتى صارت وجهة لمستقبل الخريجين وحملة المؤهلات العلمية والمهنية ، ونمضي مصرّين على مداعبة نداءات الإنسانية في أيامها الدولية ؛ فنتغزل على طريقة المجتمع الدولي بيوم الفقر ، فيأتي اليوم المنتظر للاحتفال في فنادق فخمة ، وموائد مليئة بأصناف العصائر والمقبلات والأطعمة الشهية ، ورجال ببدلات أنيقة حيكت أسماء أرقى وأغلى الماركات العالمية على ليبلاتها ، وكأنها حفلة تنكرية دُعي إليها الجميع ما عدا الفقراء ، ويبدأ الحديث عن كابوس الفقر الذي سمعوا عنه أو شاهدوه في زيارة خاطفة هنا أو هناك بحكم مسؤولياتهم ، ويتمكن الصداع من الرؤوس بالحديث عن إحصائيات طويلة ، وعروض تقديمية متخمة بصور المجاعات ، والأحياء العشوائية ، وأطفال بلا مأوى ، ونساء ضاعت ملامحهن وهنّ يسعين ضمن المتاح لدفع براثن العوز عن أطفالهن ، لتغرب شمس ذلك النهار وقد صدر الحكم بإعدام الفقر رمياً بالحبر على الورق ، وتستيقظ البشرية على يوم دولي آخر ؛ إنه يوم الطفل ، اليوم الذي يغرق بالحنان ، ويصطبغ بألوان الفراشات ، وسط أحاديث دافئة عن حقوق الطفل في الأمن والاستقرار والتعليم واللعب ، لكنّ كمية الحنان المتدفقة في ذلك اليوم ، وكلّ الألوان الزاهية التي اصطبغ بها ، لم تكفِ لتحتضن الأطفال العاملين في الورش والمحلات الصغيرة ، أو المتسولين في الشوارع ، ولم تكن ذات الكمية كافية لتُسكت جوع طفل أتت الحرب على موطنه وقوت أسرته ، ولم تكن كافية لتحمي الأطفال الذين يتعرضون للإساءة والعنف والاستغلال بكافة أشكاله ، وتمضي البشرية في غزلها العُذري لحقوق الإنسان ، وتسعى بإصرار على تهذيب علاقته بما يُحيط به من عطايا الخالق ، فتحتفل على عادتها بيوم الأرض ويوم الشجرة ويوم الماء ، حتى الأسماك لها يوم في روزنامة الاحتفالات الدولية ، لكنّ ذات البشرية تصمّ آذانها ، وتغض بصرها كما تفعل النعامة ، وتمضي في سلوكها المستنزف لثروات الأرض والمدمر لمكوناتها الحيوية ؛ مقدمة مصالحها وأهدافها على كلّ صافرات الإنذار التي تُحذر من النهاية المأساوية للكوكب إذا ما استمر نهج الإنسان على ما هو .
365 يوماً لا أعتقد بأنها كافية لكل أحلام المنظمة الدولية للاحتفال والتذكير والتوعية ، ولن تكفي ثلاثمائة أخرى لو تسنى لنا إضافتها ، فأمام كل صوت إنساني غيور وصادق وجاد في مسعاه نحو جعل الأرض مجتمعاً إنسانياً تُحترم فيه الذات الإنسانية ، وتُصان فيه الحقوق والحريات دون تفريق في العرق أو الجنس أو المُعتقد ، يوجد آلاف ممن تجردوا من كلّ معاني الإنسانية ، وهم ينالون في كلّ يوم من حقوق المرأة والطفل والعامل والبيئة ، بإسم الحرب والجريمة والعنف والشرف والفقر والجوع والأزمات والصراعات السياسية والمنافسات الاقتصادية ، فلم يعد ذلك الأسلوب الفانتازي في القضاء على صور الفشل الإنساني ناجحاً أو مقنعاً حتى على مستوى أضعف درجات الإيمان في التغيير ، فجدارة الاحتفال تقتضي مساواة الجميع ممن يحملون جنسية البشر ، في فرح الاحتفال دون استثناء ، وإن استحقاق الاحتفال يقتضي الانتصار على كل ما من شأنه عرقلة الجهد البشري في الارتقاء في مراتب الإنسانية إنجازاً لا خطباً رنانة وشعارات براقة وهتافات خاوية ، وما السبيل للاحتفال وكلّ مشاهد الظلم والقهر تملأ ذاكرة ووجدان ما بقي في أعماقنا من إنسانية ؟! ، وما السبيل لنمحي كلّ تلك المشاهد المأساوية من صفحات التاريخ الذي سيروي للأجيال القادمة فصلاً أليماً من حياة الإنسان ؟! ، إنسان عصر التكنولوجيا والعولمة والاتصالات والفضاء ، وإنسان الحرب والقتل والعنف والتمييز والجوع والفقر .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: