لم تكن بداية 2020 وادعة ، أو مليئة بالأمنيات ، فقد أمسك الفيروس المستجد كلّ الخيوط ، وحرّك العالم كلّه كمجموعة من عرائس الماريونت ، لم يكن السيناريو واضحاً ، وكان المسرح يضجّ بالفوضى والغموض ، كانت الأحداث تتصاعد بتوتر عالٍ ، و صار الجميع جزءاً منها ضمن خليط من مشاعر التشكيك ، والإنكار ، حتى تكشفت الكثير من الحقائق ؛ فصار العرض أكثر وضوحاً ، و جاءت الرسائل المنبعثة في ثنايا المجريات مُحمّلة بالكثير من الحزن والخوف والترقب ، وعلى وقع الألم الرتيب باتت المواجهة مع الذات أكثر أهمية ، لقد كانت التجربة أكثر قرباً مما اختبره كثيرون عبر مجموعة من أفلام الخيال التي سردت قصص الوباء ، وفي صفعة قوية أُجبِر البشر على الوقوف أمام المرآة ، لرؤية الوجه الحقيقي لما انتهت إليه حقيقة الإنسان بعد أن غاب طويلاً خلف قناع المادية ، وشره الاستهلاك ، وجشع النفوذ ، وغرور العلم ، فظنّ أنه البارع الفذُ على مسرح الدُمى ، حتى لم يعد هناك ما يُخيفه ، أو يقف حائطاً منيعاً أمام تطلعاته ، فكان لا بدّ من تلك الصفعة حتى تُفيق البشرية أجمع من تلك النشوة المزيفة ، وتواجه حقيقة عجزها وقصور قدراتها ، وتنظر بعمق إلى حيث ترسو أقدامها على بحر من أشلاء ، فكيف لها أن تصمّ آذانها عن صراخ تلك الأرواح التي تجوب الأرض بحثاً عن عدل منشود ، وأين تخفي خجلها من عتاب أولئك الأطفال الذين استيقظت براءتهم على الأنين الممزوج بالفقر ، والجوع ، وأحلام تقطعت أوصالها على مقصلة الحرب المجنونة .
وفي تلك الوقفة أمام المرآة ؛ شاهد الإنسان وجهه الحقيقي الذي تناسى ملامحه في غمرة الجري خلف فُتات الحياة اللذيذ ، وها هي علامات الذهول تكاد تتآكله وهو يرى ما آلت إليه نفسه ، لقد كان يجري دون أن يلحظ من كانوا معه على الدرب ، فلطالما جلس معهم ، وتبادلوا أطراف الحديث وأوسطه ومنتهاه ، لكنه كان يطويهم كالصفحات كلما انعطف الطريق ، لم يعد أحد منهم هنا ، فقد داس على بقايا ذكرياتهم دونما اكتراث ، فلم يعتقد أبداً أنّ القطار قد يجمعه بأحدهم في محطة ما ، فهم مجرد أرقام في هاتفه المحمول يزيلها بكبسة زر ، وقد يحتفظ ببعضها على كرسيّ الاحتياط .
لم تجامله المرآة ، ولم تُشفق عليه وهي تقصفه بكل تلك الحقائق التي تاهت منه ، وهو يجري لاهثاً خلف خيالات من ورق وخشب ومعدن ، بحث ملياً بين تلك الأشياء التي استنفذت إنسانيته في رحلة العمر التي لم يشبع منها ، فلم يجد سوى بقايا من وَهم ، هكذا تبدو الآن ، بعد أن كان يختزل الدنيا بحالها فيها ، كيف وصَلتُ إلى هنا ؟ ، بادر نفسه بالسؤال ، وكيف ضِعتُ من نفسي ، وقد كنتُ أحسبُني العبقري البطل ، لم يخطر لي أنني ضعيف وقدُ كبّلني مخلوق دقيق بأصفاد من خوف وعجز ، ولم أعي أنّ كلّ ما أمضيت أيامي أحسبه كنوزاً أجتهد بجمعها ، لم يكن سوى ذرات من رمال تركض هاربة من بين أصابعي ، وأدركَ أنه ليس سوى بعضٌ من أيام ، كلّما ذهب يومٌ ذهب بعضٌ منه ، وذهب بعضٌ من ذلك السراب الذي تساقطت أيامه وهو يجري خلفه ، وهنا كان شيء في داخله يسأله عن تلك الأيام التي انتُزعت أوراقاً من أجندة حياته ، فأيها كان الأجمل ؟ تُرى هل كان اليوم الذي امتلك فيه لعبته التي تمناها صغيراً ، أم كان يوم تخرجه ، أم يوم تسلُّمه مهامّ وظيفته الأولى ... لعله يوم زواجه ، أو يوم ولادة طفله الأول ، ربما كان يوم سكناه بيت العمر الذي لم يُنه أقساطه بعد ، واستغرق أكثر في لعبة التساؤلات التي اجترحت ذاكرته العشوائية ، وصار يُقلّب صناديقها باحثاً في الماضي ، فتلك اللحظة التي خفق فيها قلبه عِشقاً للمرة الأولى كانت الأجمل ، بل إنها اللحظة التي قبض فيها أرباحه الأولى من مشروعه التجاريّ ، أو أنها لحظة ارتقائه إلى المنصب الذي حلم به ، وهنا بدأ يستغرق أكثر وأكثر في مسابقة تتويج اللحظة الأجمل في مجموعة أيامه ، ليجد نفسه يطرق باباً مهملاً في حصن ذكرياته المنيع ، ومن خلف ذلك الباب وعلى خجل أطلت ذكرى لحظات لم يحتسبها يوماً في ميزان سعادته الماديّ ، فكم كانت تلك اللحظات التي بكى فيها شوقاً إلى خالقه هي الأجمل ، وكم كان ضعفه مُحبباً ، وألمه شهياً وهو بين يديه ، وصارت الذكرى تجرّ الأخرى وقد وجد فيها ضالته ، وقد شقت ابتسامة واثقة طريقها إلى فمه ، شعر برغبة في الاسترخاء ، ليمنح ذكرياته الخجولة طمأنينة اللقاء ، فتذكر دفء كفيّ والدته وهي تلف وجهه بهما كلما حانت لها فرصة ، ولا زال ذلك البرد في شفتيها مختَزَناً في خديه ، حتى بعد غياب طويل ، ولا زال صوت والده ناصحاً وموجّها كالنغم في شُغاف القلب ، وضجيج اللعب مع إخوته وأصدقاء الطفولة ، وصراخهم خلف الكرة يزاحم ذكرياته محاولاً اتخاذ مكان بينها ، كلّ ذلك و جزء منه مشغول بالبحث عن ذلك الصديق الذي كان مأوى لأحزانه وأحلامه ، ورفيقاً لمتاعب أيامه وعقباتها ، كان ظلاً ملازماً له ، فلم تخل ذكرى من وجه ذلك الصديق ، وهنا كان لا بدّ من إغلاق ألبوم ذاكرته ، ليقف مرة أخرى أمام المرآة التي أخضعته مستسلماً أمام صدق رؤيتها ، فأين ذلك الصديق ؟ وكيف غاب فجأة دون أن يلحظ ؟! سأل نفسه كيف لم ألحظ انسحابه من بين الذكريات ، وكأنما سقط من على مرتفع عالٍ ، وهوى في درك ذاته التي ألقت نفسها أسيرة في محيط بعيد من ملح وماء ، وفي أعماق ذلك المحيط كان بإمكانه أن يرى كيف استهلك أيام ما انقضى من عمره ، في جري لا ينقطع خلف أزمات متتابعة لا تنتهي ، ولُهاث شره خلف سعادة مؤقتة أتته مغلّفة في ورق من مال وثياب ، ونجاح مُبهرج بصحبة مصطنعة وألقاب زائلة ، وبين هذا وذاك اختفى الصديق ، وخبى طعم الفرح الحقيقي الذي تذوقه مرة ما .
لقد أحبّ هذا العام وقوفنا عاجزين عُزّلاً دون علم أو إيمان ، فلسنا نحن الأبطال الخارقين على هذا الكوكب ، وقد تكشّف مقدار ضعفنا العلميّ رغم بلوغنا ما ظننا أنه أقصى درجات العلم ، وياللخجل ونحن نواجه المرض بكلّ الخوف والقلق وبكلّ اللامبالاة أحياناً ؛ متناسين تلك القوّة الهائلة التي يمنحنا إياها الإيمان بالخالق عزّ وجل ، والتي تبث الطمأنينة في كلّ أجزائنا لمجرد أن نؤمن بأنّ إرادته هي من منحتنا الإرادة ، وبأن اللجوء إلى حماه مع الأخذ بأسباب الدنيا هي ما تجعلنا ما نحن عليه ، ولم يكن هناك بأس في تلك الصفعة ، علّها تُحيي في نفوسنا ما مات من قيم ومشاعر نبيلة ، فذلك الصديق الذي ضاع منك ومني في زحام الأيام ، ليس مجرد صديق ، إنه أنت وقد تلاشى الكثير منك معه ، وهو ماضيك بكل ما فيه من عبث وضحك وألم وأحلام ، واعلم أنك لم تكن لتشعر بوجع تلك الصفعة ؛ إلّا بمقدار تفريطك بكلّ معاني الجمال والصدق الكامنة في تلك العلاقات التي كان يمكن أن تتحول إلى ألماس ثمين كلما زادت عليها ضغوطات الحياة ، لكنك آثرت أن تبقيها كربونا يحترق ، فاحترق بعض منك ولم يبق سوى الدخان المبعثر في الهواء .
وقبل أن نودع 2020 ونطوي صفحتها في سجل الذكريات ، فإنّ الفرصة لا تزال ماثلة لمراجعة كشوفات الحياة ، والفرصة ولا شك ذهبية للإنسانية لاتخاذ هذا العام بداية جديدة ، تُعيد فيها ترتيب أولويات ما تحزمه داخل حقيبة الترحال عبر محطات العمر القادمة ، ولتكن حكاية الوباء أول ما يوضع في تلك الحقيبة ، فقد علّمنا الفيروس أنّ بين المسافات الآمنة كثير من المُتسع للحُبّ ، والعطاء ، وأنّ أشباح الخوف والقلق يبددها الإيمان المقترن بالعلم والعمل الموجه نحو الهدف بدقة وإخلاص ، وأن الإنسانية جسد واحد لن ينج منه عضو دون أن تنجو بقية الأعضاء ، عندها فقط يمكن أن يحترف الإنسان تحريك الخيوط في عرض بهيّ على مسرح الحياة .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: