الجزء الأول:وجودية العنوان
"أفول المواجع"ديوان يحمل اسمه عنوان قصيدة مدرجة في متنه (ص14)وهو دال مركزي للعالم الشعري لصاحبته،إذ يعكس اجمالا تعاملها مع ذاتها وما يعتمل داخلها من رؤى وأحلام وذكريات ومواقف من جراء تفاعلها الصادق مع محيطها وما يحبل به من أحداث ووقائع ومناسبات لها تأثيرها على البعد النفسي والوجداني/العاطفي للشاعرة،صدى هذا التأثير يتلقاه القارئ عبر دفقات شعرية مركزة وكثيفة تنقله تدريجيا من عتبة التذوق الفني الشعري إلى عتبة التفكير و التأمل وفضاء التأويل بهدف اكتشاف البعد الدلالي العميق للديوان ،ليعود الى عنوانه في عتبة استفهامية حول العلاقة الرابطة بين العنوان والمعنى الإجمالي لمحتويات قصائده/مكوناته ،،ليتبين /يكتشف ان حمولة القصائد تدور في فلك"المواجع"بما تعنيه من فقد وغياب وحسرة ومرارة وألم وخيبة امل،،،،أما "أفول "فهو مجرد حلم مرتبط بخيط واهن يعبر عن وجهة نظر قلقة ومتأملة تقر بأن المواجع محايثة للحياة، ومرارة الحياة لا تخلو من بصيص أمل، وكأني بالشاعرة تحاول زرع الأمل من جديد في نفس المتلقي بعد أن اجبرته فنيا ومعنويا على أن يشاركها ويتذوق معها طعم الفقد ومرارة الغياب وخيبات الأمل و انكسارات الذات....
هكذا ينطوي عنوان الديوان على تصور وجودي، إذ تتميز "المواجع" بالوجود والحضور، أما"أفولها " فهو استحالة أو إمكان،وبين هذا وتلك تعيش الذات حالة قلق دائم،قلق ساكن في أعماق الشاعرة ولكنه قلق مرتبط بالمستقبل وإمكانات الذات وحريتها ....في هذا المستوى استحضر قول رائد الوجودية الفيلسوف سورين كيركجارد:"لا يوجد موجود بشري تخلو نفسه تماما من كل أثر للتمزق أو الإزعاج أو الضجر أو اليأس أو الجزع أو أي صورة من صور التمزق الباطني..."(١) انه أثر يطوي القلق طيا ويحتويه،"إن غياب القلق هو علامة على القلق،وإذا ما ظن انسان ما انه قد تحرر من القلق فليكن على ثقة تامة أنه يخفي القلق في أعماقه....فليس تمة حالة يغيب فيها القلق...."(٢)....
يتبع
الجزء الثاني:صدق الديوان الفني.
يستمد الديوان صدقه من مؤشرين/شرطين هما تقاطع القراءات النقدية والتعبير عن التجارب المشتركة .
***بصدد المؤشر الأول تبينت ان القراءات النقدية للديوان (٣)سواء كان منظورها النقدي لسانيا بنيويا يقف على البنيات المعجمية والنحوية والصرفية أو كان اسلوبيا يتوخى تقصي الطاقات الدلالية والمجازية للغة أو كان وظيفيا هدفه النبش في المرجعيةالثقافية والإبداعية والشعرية فإن هذه القراءات أجمعت على أن للديوان تجليات جمالية وفعالية إبداعية وإمكانات دلالية غنية تضفي على الشاعرة فرادة وتميزا.يقول في حقها الناقد مجد الدين سعودي"شاعرة مبدعة ومتألقة، تجمع بين القديم والجديد عبر موروث لغوي وثقافي كبير، تكتب بشاعرية قوية وأحاسيس إنسانية رائعة و صور شعرية مؤثرة، تمتاز بالتميز والتفرد في كل قصائدها ودواوينها "هذه الشهادة تجد صداها في قول الناقد محمد الصافي بن عبد القادر حول الديوان " أفول المواجع هو بمثابة لوحة ابدعتها شاعرة مبدعة،رسمتها بمشاعرها الرقيقة وبألوان حروفها المتزنة ومساحات تعبيرية يغلب عليها الأسلوب البسيط والمرن الذي يجعل المتلقي يهيم في شلال من الأشواق والحنين النابع من قلب نابض بالحياة."
***بصدد المؤشر الثاني يلاحظ أن بعض قصائد الديوان تحفل بالتعبير عن قضايا مشتركة بين الشاعرة والمتلقي هذه القضايا تصل تجربة المبدع بتجربة المتلقي من خلال اللغة وما تحمله من إحساس وشحنات مشتركة، وليس المهم في التجربة موضوعها وإنما المهم هو وقعه في النفس وتشبع الوجدان به وبأصدائه وما يحدثه من قلق وخيبات أمل وانكسار واغتراب وتأمل وتجاوز....ليس المهم الموضوع وإنما المهم هو تقاسم ثأثيراته وحمل همه ، هكذا تتقاسم الشاعرة مهزلة الإصلاح مع المتلقي في قصيدة "عندما تشيخ الأماني"(ص19) وتتقاسم معه وجودا مأساويا يؤطره النزوح والتشرد والفقر والجوع والإغتصاب في قصيدة "نهاية وبداية"(ص59) وفي قصيدة "لسان الحال"(ص66) ترصد بعين المتلقي واقع الجهل وعواقبه المادية والمعنوية والكارثية وبضمير الجمع تنهي قصيدتها قائلة:
إنا هاهنا منتظرون
والى الأبد مترقبون
تغيير الواقع والأحوال.
وفي قصيدة "عفوا"(ص34) تقاسمت الشاعرة مع المتلقي رأيا في تخليد عيد الحب انتصرت فيه للدفاع عن الحب وأهميته داعية إلى الإحتفال به كل يوم....تقول الشاعرة في نهاية القصيدة:
فعفوا...
لا ينفع الإحتفال بك
كل سنة بيوم...
إن معايشة الشاعرة لتجارب حقيقية وربطها القضايا الإنسانية العامة بقضاياها الذاتية والتعبير عنها في مقاطع/مشاهد شعرية تجعل المتلقي يتفاعل معها عقليا ووجدانيا هو ما أضفى الصدق على قصائد الديوان .
يتبع
الجزء الثالث:الغياب وما يتعالق معه /أفق دلالي ورؤية فنية.
بدء: اختيار المقطع الشعري من قصيدة "تساؤلات" الموجود على غلاف الديوان هو اختيار دال.يقول المقطع:
أتساءل للمرة الألف:
متى انفض غبار الوحشة
عن ذاكرة مكتظة بالغياب؟!
متى أغير أعمدة نور
أخمدتها غزارة الدمع.
وأضاع توهجها
لهيب الإشتياق.
في إيحاء داعم لمضمون المقطع /الإختيار يقول أحد النقاد "أصبح الغياب في ذاكرة الشعراء و الشاعرات حالة وجودية يشتقون منها حضورا غائبا لكل الأشياء التي تمر بهم وتطرق نوافذ حنينهم،فأصبحت ثنائية الحضور والغياب تحمل رؤية فنية في نصوصهم عميقة الأثر والتأثير".
خير شاهد على صدق هذا القول ديوان "أفول المواجع "إذ يستند معجمه على مفهوم الغياب وما يتعالق معه من مفاهيم كالحضور والإنتظار والفقد،إذ الغياب يستدعي الإنتظار والإنتظار يستدعي حضورا ما لشيء غائب،وحالات الغياب يؤججها الفقد والحنين والشوق والذكرى واغتيال الأماني ،وقد تعاملت الشاعرة مع الشحنة الدلالية للغياب بشكل أكثر وجعا وأعمق ألما ومأساة وتأثيرا على الذات وما يخلفه من حالات فراغ وضياع وانكسار واغتراب وفقدان المعنى وفي ثنايا هذه الحالات يعشش السؤال :"ما قيمة الحياة اذا ضاع العمر في الإنتظار؟"وبذلك تكون "الشاعرة خديجة بوعلي شاعرة الدمعةالمنسكبة على مآسي الحياة"(٥)
خير دليل على هذا التعالق محتوى قصيدة"على أهبة الموت"(ص13-11) إذ جاء في مستهلها:
على أهبة الموت،
انتظرتك...
على مفارق الحنين،
انتظرتك....
بعد ذلك تتساءل الشاعرة :
أينك أيها الحاضر
الغائب في كل
وقت وحين؟؟؟!
تساؤلها ينطوي على انتظار الحاضر/ الغائب المتأمل فيه:
بك...
يروي المطر المنتظر
سنابل الود
يغتال وجع الغياب
والفقد
هذا التعالق تستحضره الشاعرة في قصيدة "مر السحاب"(ص46-45) حيث الإنتظار حالة ملازمة للحياة، والحضور حالة لحظية عابرة تضحى غيابا/ " ماضيا في لمح البصر"/ ومنه غرابة الحياة.تقول الشاعرة:
فما أغرب فيك يا حياة الأمر!
كم يطول الإنتظار
في محطاتك الكبرى!.
في استكمال الرؤية الفنية لهذا التعالق نقرأ في قصيدة "اميرا أعلنتك "(ص 62) علاقة تماهي بين الحضور والوجود، وبين الوجود والسعادة،وبين الشوق والغياب.تقول الشاعرة:
في حضورك
ترياق الوجود
رضاب السعادة وجودك،
والشوق واللوعة غيابك
لذلك أميرا للروح،
توجتك.
الأفق الدلالي للغياب يتسع أكثر في قصيدة "للغياب رنين"(ص77-76) حيث ظهر كلازمة تكرارية في القصيدة (تكرر4 مرات) تستهل بها مقاطع شعرية، وقد أبدعت الشاعرة في تشخيصه بصورة حسية حركية حولته الى وجود/كينونة له صوت/رنين، والرنين يعني اهتزازات عالية الشدة في النظام الفيزيائي(٦)وله فعل سلبي أهم تجلياته الكسر،الضياع، الحزن،التيه،الغشاوة، ندوب في الروح،عطل في الحياة....تقول الشاعرة:
كسرني الغياب
أجلاني بين الهضاب
والوهاد...
لا لحن ولا قصيد،
يجلي بثور البعاد....
ختاما أقول : هذا غيض من فيض التجربة الإبداعية للشاعرة خديجة بوعلي،،،غيض يظل محدودا لا يرقى إلى مستوى كشف كل مكوناتها الفنية وغاياتها التاوية وراء لغتها/منطوقها،،،.
انتهى
هوامش:
١-مقتطف من مقال للناقد أمين دراوشة.
٢-نفس المرجع أعلاه
٣-قراءات نقديةل:
.مجد الدين سعودي
.محمد الصفي بن عبدالقادر
.مصطفى البدوي
.سعيد فرنساوي
.الميلودي الوريدي
.محمد مهداوي
.أ.بوزيان موساوي
٤-مقال "الغياب في ذاكرة الشعر":ابراهيم محمد الشتوي
٥-دراسة نقدية لديوان "أفول المواجع"لمصطفى البدوي
٦-ويكيبديا.
.
Post A Comment: