أهو الجنون البشري أم جموح الخيال العلمي الذي استحال إلى الحقيقة؟ هذا أول سؤال غزى رأس العيد من كلام صوفيا دون أن يجهر به لها، بعدما أن استفسرها عن عنوان  الإعلان الغريب الذي طرأ فجأة بالزاوية التحتية اليسرى  لشاشة حاسوبه "اكتشف ملامح أسلافك البعيدين" ! 

إعلان غريب وطبعا واستحق سخرية والده حتى:

- هذا كلام فارغ، كيف يمكنهم أن يصوروا من عادوا إلى العدم دون أن تلتقط لهم صور قط؟

- ولمَ لا أبي؟ التكنولوجيا اليوم ترسم الكون حتى قبل ميلاد الأرض التي من تربتها عظامنا ولحمنا !

- لا تشغل وقتي بالتفهات، وجهُ جدك يكاد موج النسيان يجرفه من صخور ذاكرتي، لن تقنعني بأن حاسوبك يحيي ملامحه من أجداث الخيال فقط بملف من صور لأخلافه، هذا بشر وليس بقر حتى يقاربوا ويطابقوا نسخه؟ 

أخذته أخذا فكرة اكتشاف ملامح جده، يحمل اسمه ويجهل وجهه مع أن أثر خطوه قد لا يزال موشوما على حمرة هاته الأرض الصحراوية لو أن العلماء اكتشفوا كاشفة للأنساب فقط من آثر الخطو القديم !

الجنون كررها ثانية قبل أن يعود ليسأل أباه:

- أتشبهه؟

- لا أدري، فأنا لم أره إلا من وصف جدتك، وقد أكدت أني مائل في الشبه لأخوالي..

فاضطر الى مواصلة هذا الاستجواب رغم أنه كان يضايق به والده، وطبعا فهو لم يسأله إن كان جده يشبه ممثلا أو كاتبا أو مطربا، فوالده لم يرى السينما يوما ولم يقرأ لكاتب حتى يعرف وجهه، وأغانيه التي يجتر دندنتها في خولته موروثة عن الراحلة جدته !

- وهل أنا أشبهه ؟

- قلت لك لم أره مثلما أراك الآن أمامي ! 

- وهل تراه من خلالي بحسب ما روته لك جدتي؟

- لا أظن..

- لعل النقص في البذلة فقط، ما رأيك لو وضعت عني قليلا هاته الجاكيت الجلدية البارقة بسوادها، وسروال الجينز الأمريكي، الممزق على صعيد الركبتين، والحذاء الرياضي الأبيض الخفيف، ولبست ما احتفظت به جدتي من ألبسته، جلابيته الاحمراء لوبرية المغربية، وعمامته البيضاء المطرزة بأشكال كوفية أندلسية ذهبية ووانتعلت جزمته ذات الفراش السميك وأمسكت عصاه الغليظة ، ربما قرأت الملامح التي وصفتها لك جدتي فيَّ..

- وأين هي بذلته وعصاه، لقد تصدقت بها على الشيخ عبد القادر ليلة دفن جدتك، وهو الآن طريح فراش المرض !

ألمه كثيرا ما اخبره به والده، حتى كاد يخطئ ويسأله باللائمة  “حتى أشياء هاته العائلة المعطرة برائحة القدم المعفرة بغباره تفلت من التوارث فأي تركة ستؤول إلي بعدك؟”

 لكنه حبس هذا الغيض في فمه..

استشعر والده حسرته الصامتة وخيبته وهو ينظر إليه بشيء من النزق والازدراء مما هو مهتم بالحديث فيه، مذ طرأ ذلك الإعلان الغريب على حاسوبه، بل وخشية تهوره كما عهده عنه مذ فقست بيضته كما اشتهى دوما وصفه، فيدق بباب الشيخ عبد القادر ليطلب من زوجته استعارة بذلة جده، وساعتها كان سيقع في ورطة شرح الأسباب للشيخ والشيخة، ولن يجد وقتها ما يبرر به تهور ابنه، فهل يصح أن يقول لهما أنه يريد فقط أن يلتقط بهما صورة حتى يقترب من ملامح جده التي روتها جدته لأبيه، فيرسلها إلى ألمانيا لأحصل على صورة جده، أكيد حينها سيكون كمن احتاج إلى رقية من الشيخ ليطرد عنه الجني أو ليستعيد وعيه! فار الحال بداخل أبيه  فقال له بغضب هادئ:

- أليس أفضل لك أن تشتغل بدارستك ومذاكرتك..

قاوم ضجر والده من مقترحه وواصل اتعابه بالاسئلة اليوم الغريبة العجيبة:

- ماذا لو أرسلنا لهم بصورتينا أنا وأنت، ربما انتخبوا أعضاء من وجهي وأخرى من وجهك ولتوصلوا لخلطة ملامح قد تشكل وجه جدي الحقيقي، أتوق لرؤيته لو تعلم..

التقط سيلفي مع أبيه وأرسل الصورة لصوفيا عبر حسابها بالفيسبوك بعدما تعذر ذلك على البريد الاليكتروني، لا يدري ما السبب، أخبرته بعدها بأن البرنامج بالمخبر عجز عن أن يصل إلى شكل موضوعي محايد من ملامحهما هو وأبيه، وأنه فكلما جمع البرنامج ملامحهما تطلع صور لشخصيات غير مرغوبة وبعضها بسمعة ليست طيبة في الإعلام العالمي ! 

- لذا عليك أن تدعم ملفك بأي شيء يزيد من الشرح ويغني الخيال الاليكتروني فيتوصل إلى اكتشاف وجه جدك..

قالت له صوفيا

- الخيال ! يعني لن تكون الصورة الحقيقية لجدي؟

- العالم كله خيال يا أنت، هل تظن أن ما تراه في فكرك يراه بالشكل ذاته غيرك؟

سكت لأنه لا يحتمل أن يعْلَق المزيد من الغموض الذي يحمله مذ وعى بحاله بداخله، لو كان بوسعه احتماله ما سعى للبحث عن ملامح جده الذي يردد البعض حكمه وأشعاره دون أن يروه.

قال لها:

- لست مثلك ألمانياً يحمل برودة الفلسفة !

- هذه ليست فلسفة نحن نتحدث عن أدق العلوم اليوم، الحواسيب تعيد صناعتنا، ثم أني لست ألمانية، اكتشفت ذلك أنا أيضا مؤخرا !

- كيف؟ لا تقولي لي من الحواسب أيضا؟

- بالطبع، سألت عن أصل الاسم الذي أعطيته فقيل لي أنه كان لجدتي الخامسة، وكان في الأول "صفية" قبل أن يترجم !

- جدتك كانت من أصول عربية !

- لا أظن ما أعرفه أنها سامية عاشت بين العرب، هكذا قال لي الحاسوب !

أحسس ببرودة في دمي فسألتها متحاشيا مزيدا من الإيغال في عالمها الاشقر:

- بمَ يمكنني دعم الملف؟

- لا أدري ربما بسرد ولو موجز لصفاته ممن عاشروه؟

كان الأمر صعبا، حتى والده حين ألح عليه مرة، اعترف له أنه رآه مرتين في عاريا تماما في المنام، وخاف من أن يكون العراء المشكلة فانمتع عن طلب تفسيرا له، ساعتها قفز من الفرحة، وطلب منه أن يجهد ذاكرته ويصفه له، فاعتذر، لأنه رآه في المنام قبل أن أولد ولم يحفظ تقاسم وجهه ولربما لم يكن هو بل شخص انتحل في الحلم أبي شخصية وملامح جدي !

- قد يكون مجرد الشيطان تعلمت هذا من الجامع !

حاول أن يفهم أباه ما تعلمه في الجامعة من أن الحلم قد يستقر بجحر خفي من جحور الذاكرة وتحتاج إلى صياد بارع ليستخرجه..

- ومن في رأيك هذا البارع الراقي الشيخ المختار..

- لا طبعا أعني طبيب نفاسني..

نظر إلى وحهه مليا بحنق كما لو كان يبحث عن موضع مثالي لكفه الغليظ، صفعة من تلك التي كانت تحمل ثقل غضبه.

- هل أدخلتك المدرسة ولم أحرمك منها مثلما حرمني جدك لتتعلم أم لتراني مجنوناً !

فخاب مطلبه !

رغم أميته، كان والده يثق في العلم ، لهذا كان يقبل الحديث معه عن مشروع اكتشاف ملامح جده الشاعر  وقد قال له وهو يحاوره:

- نعم أثق في العلم لكن الذي يمنحني كما تراني أمامك الآن مع هاته الحقنة الانسولين لأضبط السكر بدمي وليس لأسقط في حبال خيال  الرسامين !

- لكن الرسم صار من العلم أبي، العلم يرسم اليوم الماضي والمستقبل والحاضر وبيتنا هذا ما كان ليبنى لولا أن رسمه خيال فنان..

- لا هذا مستحيل، فوجه جدك لم تلتقطه الكاميرا يوما فهو من الغيب قد صار

- الماضي ليس غيبا يا أبي ! 

- خلاص دعني من هذا الكلام الذي صرت تلوكه مذ جعلتني أبيع ناقة لاشتري لك هذا الحاسوب اللعين.

عاد إلى صوفيا وقال لها:

- ليس في المدينة من عاشر جدي.

- وفي البادية؟ الناس هناك يعمرون؟

محقة صوفيا في رسالتها الناس يعمرون في البادية، فلربما عاش أحدهم أكثر من تسعين سنة وقاوم سيل السنين وسير الأجيال السريع الايقاع، وحضر في كاميرات الهواتف الذكية حتى..

لكن كيف أله أن يقْفُ أثر جده في الصحراء الواسعة، يبحث عن تقاسيم وجهه وأثر خطوه والحضور في الفيافي الخاوية كالخطو على الرمل سرعان من تذروه وتمحوه الريح؟

عاد لمراسلتها معتذرا عن عدم قدرته على موافاتها بما طلبت، لأن الصحراء أوسع من أن تبوح له بصورة وجه وجده ففي البادية مات جل أولئك الذين عاشرهم جده وارتحل إلى الأقاصي المجهولة بقيتهم.. وتلاشت كما مع الموتى في ذاكرة الجميع ملامحهم !

- هل تعرف قبره؟

- نعم وأزوره مع والدي كل جمعة وفي الأعياد، ونقدم الطعام صدقة على باب المقبرة.

- إذن فالأمر بات سهلا !

- كيف؟

- (......)

هاله ما طلبته صوفيا، أحسست برغبة في القيء، ولو تشجع وتفوه بمجرد مقدمة كلامها لأبيه لا طاله كفه المؤجل عن عرضه السابق له بزيارة الطبيب النفساني !

-  لا.. لا هذا ليس معقولا !

- ولماذا ليس معقولا؟

افتعل انقطاعا في النت وقطع الحديث معها وراح ينزع أكثر إلى الخيار الأول، أن يجمع أشعار جده البدوية، لأن أستاذ اللغة والصوتيات أكد له أن اللغة وأدائها ترسم ملامح الوجه، ولم تعترض صوفيا عن هذا الطرح، لكن الأشعار كانت كلها بلغة الطوارق، ولما دونها بأحرفها الحجرية القديمة قال له أبوه بعد إذ طلب منه ترجمتها لي أنه لم يتعلمها وجدته كانت لا تتكلمها، أما أستاذ اللغات القديمة بالجامعة فأكد له أن ترجمتها صعبة وتحتاج العودة إلى مخبر بباريس !

قال ما هذا البلاء !

القصيدة الوحيدة التي نظمها جدي بالعربية البدوية كانت طويلة أطول من المعلقات أرسلتها لصوفيا مرقونة بالحاسوب ومرصعة بالتشكيل الدقيق، لكنها اشتكت من ثقل ملفها وبطئه في التنزيل رغم التدفق العالي والنشاط السريع للنت بألمانيا، لكأني أرسلت القصيدة منقوشة على حجر قديم مثل الأحجار العملاقة الموشومة بملاحم وملامح أسلاف جدي الطوارق بالصحراء الجزائرية.

فضحكت !

وعادت أيضا لتقول  لي مرة أن الأمر لا يزال صعبا وصورة جدك لا تزالها ضبابية في الخيال الاليكتروني !

وقتها قرر أن يفعلها، نعم لأنه أصرر على أن ينعم برؤية صورة وجه جده الشاعر، طالما توصل العلم إلى إمكانية ذلك كما تصر صوفية، لكنه قبل ذلك نزل إلى سوق الوادي، اشترى "حبتين" ابتاعهما إياه بصعوبة فليج الأسمر الذي لم يصدق أنه هو الذي من القلائل ممن تعلموا في البلدة سيتعاطاها، لكنه أغواه بالعملية وأخبرته أنها تتعلق بأساور من ذهب كانت أحدهن قد أوصت في سر بدفنها معها، ساعتها فقط ابتاعه إياها وبالمرة قبل مشاركته العملية، كما ووصاه حمل هاتفه وسلط ضوءه الخافت على  الشاهد، كل شواهد القبور القديمة انمحت صفائحها في زمن تقدمت فيه محو الأمية كثيرا، كانت البلدية قد فكرت في إطار مشروع إعادة كتابة التاريخ، كتابة شواهد القبور، لكنها خشيت من فوضى ذريات الأموات والصراع على القبور فسكتت وتخلت عن الفكرة إلى حين، سلط فليج الضوء على القبر القديم لجده، كان قلب العيد سيقع منه في الحفرة التي صارت مع النبش الوديع بالقادوم تزداد عمقا ولا شيء اتضح، إلا أن برزت جمجمته سلَّط فليج الأسمر ضوء إضافيا من هاتفه عليها، فصارت أكثر وضوحا سحب حينها الكاميرا من محفظتي والتقطت لها كما طلبت مني صوفيا أربعة لقطات وحدة على مستوى الوجه ثم الجانبين الأيمن والأيسر ثم القفا..

ردم الرفات مجددا ونزق فليج الأسمر واحتجاجه عن كذبة الذهب والاكتفاء برفاة جمجمة يتصاعد، وسط الهزيع، وصوت الكلاب وعواء الذئاب البعيدة والقمر الشتوي الشاحب المتسرب نوره الجاري بين ثغرات السحب الممزقة في عتمة سماء الشتاء..

أرسل الصور عِشاء لبرلين، وكم سره في الصباح حين فتح الايميل، بداية الرسالة من صوفيا "عمل جيد والآن بات بمقدور البرنامج أن يتخيل ملامح جدك يرسم وجه " لكن خاتمتها كانت نار "وما عليك الآن إلى أن تسدد الرسوم لأن استخراج الملامح من الأجداث كاستكشاف النفط قبل استخراجه وتكريره" !

نظر للرقم مليا، جحضت عيناه، كاد أن يكون بكلفة تحويل فيلم "ذهب مع الريح" الشهير، من الأبيض والأسود إلى الملون في استوديوهات هوليوود، كما قرأ عنها في إحدى المجلات الامريكية، فسخر من الأمر كيف لصورة ملامح وجه جده الشاعر الطارقي الهائم في الصحراء أن تغدو بقيمة تصوير كلارك جيبل وفيفيان ليث في الفيلم الشهير ذهب مع الريح !

ضحك مطولا !

 فكر في المبلغ والدينار الجزائري قد بلغ أدنى مستويات نزوله مقابل اليورو والدولار جمعت أفرادا من لعشيرة، فقالوا لي:

- نحن لا نجمع المساعدات للخيال، نجمع لك للتزوج، لتدفن أباك أو أمك أو أحد أفراد أسرتك، ندفع عنك وليمة القبر !

فقلت لهم:

- أجمعوا لي القيمة التي طلبت وضعوها في خانة جنازتي كتسبيق؟

- جنازتك !!

- نعم

- هل تمزح معنا، وما يدريك أننا لن نكون جميعا بعد موتك، وما يدرينا بقيمة الدينار وقتها وكم تستحق جثتك قيمة كي تدفن بكرامة!

انفض الجميع في نزق بعدما شربوا الشاي!

 وفي اليوم الثاني من بعد التحايل على ميزانية تعاضدية العشيرة جمع وتحويل المبلغ بالعملة الصعبة وصبه في حساب الموقع ببرلين، فوجئ بمحتوى الصورة..

- أكان جدي بهذا الشكل حقا؟ بهذه الشُقرة الساطعة التي لا تتحمل شعاع الشمس؟ هل في الطوارق شُقر من أين جاءتنا حُمرة البشرة هاته إذن؟ قمت بتكبير الصور وجعلها في إطار كبير، ثم قال لأبي:

- ها هو جدي ! قد عثروا على شكله في مخابر الكشف عن الملامح القديمة ببرلين؟

تغيرت تقاسيم وجهه، وانقبضت ملامحه؟ وقال له في غضب جم:

- كيف تجرؤ؟

- ماذا؟

- حاشاه جدك أن يكون هذا الوغد؟

- من هو هذا؟

- إنه شلومو ابن يامين الخياط اليهودي الذي سمم كل نوق البدو فقتله أحدهم حين عودته من البادية وأخفى جثته عن العساكر الفرنسيين !

شعر بالصدمة مرتين تهز بدنه وتؤزه أزا، صدمته وصدمة والده معا، تذكر الولائم التي كان يقيمها من راتبه الضعيف لجدي بلحم البقر والحملان، وتلاوة القرآن التي كان يكتري أجود قراء البلدة بأغلى الأثمان عصر كل عاشوراء، ليظل جسمه بمنأى عن العذاب في قبره، وكل أدعية الجمعات كانت تنزل في حساب شلومو بن يامين ما هذا الخسران ! 

ساعتها تسلح بالشجاعة واضطرر لكشف الحقيقة لأبيه، فصعق وألقى بإطار اللوحة على الأرض: 

- من دفن هذا الوغد بقبر والدي؟ 

ثم انسحب في لمح البصر من ناظره قاصد الحديقة، فتح مستودع أدواتها، لبث فيه لبضع دقائق ينظر في جدارها الأمامي حيث تعلق العناكب طرز بيوتها، فيما بين الفأس وبندقية جده القديمة ذات الذخيرة لم تعد في السوق الأسلحة اليوم، فقد صارت للزينة تعلق في دور العرب الحديثة اللابسة جدرانها للرخام.

احتار وهو يراه قلقا يحمل الفأس يتمتم ويقسم بعدم العودة إلى البيت حتى يحرر قبر جده ! هل يتبعه أم يعيد ربط الاتصال بصوفيا ليسألها مجددا حول نسبة الخطأ في برنامج كشف صورة الاسلاف!




Share To: