كانت تجاورني.. سحابة عمل تظللنا.. سويعات تجمعنا.. ولما كانتْ قطبَ قِسْمها صارتْ محوراً لمرؤوسيها، يتجاذبون معها الحوارات، تمنحهم بود التوجيهات والانتقادات.
كثيراً ما أزعجني جِدالُهم ومناقشاتُهم في العمل وغيره، إلا أنني كنتُ لا أزيد عن أن أمتعض متصبراً، أقول متصبراً: دقائق وينتهون، وإلى مهامهم سيعودون.
كان فريقها حقاً متآزر اللبنات، متسق الأفكار والمنطلقات، متكاملَ العمل والإنتاج، يَصدُر عن طبقة من المجتمع انتعشت مادياً، وإن افتقر بعضهم روحياً.
أفرزتهم مدارس اللغات، وكليات الألسن والترجمات، وأسبغت عليهم من ظلالها ثمار التميز والاستعلاء، ووهبتهم جراءة في التعبير، لكنها أكسبتهم إسرافاً في حب الذات!
كنتُ من جانبي طَلْقَ السلام، قليل الكلام، محافظاً على علاقة الزمالة من أدب واحترام.
وحين يقصدني زميل بحوارٍ أو نقاش أنهض بعيداً عن المكان؛ كي لا أشوِّش على جارتي، أو أكون سبباً في انقطاع تركيزها، وتسلسل أفكارها.
بل كنتُ أخفض صوت هاتفي باكورة كل صباح حتى أكون حضارياً فلا ضجيج ولا جَلَبة.. على حين كانت الهواتف من حولي تُوقظ النومى، وتؤرق الوسنى، وتطرد الكرى إلى غير عودة!
وذات يوم.. نسيت أن أخفض صوت هاتفي، وكان أذان الظهر قد حان، فإذا بصوت الشيخ المنشاوي يجلِّل المكان، ويصدح في خشوع قانتٍ لله وخضوع.
وما إن صَدَعتْ أولى تكبيراته إلا بادرتني جارتي بوجه عابس كأنه أوذي بوشاية، أو سِيمَ غبناً ونِكَاية: أن اخْفض الصوت.
نظرت إليها في عجب وبثثتها بأسارير وجهي كل ما كان بمقدوري من دهشةٍ وأسفٍ وضيق، وأنا مَن تحمَّل صخبها وفريقها لسنتين انسلختا، وذلك في الوقت الذي كانت أصابعي قد أسكتت -في أسى- رائع صوت المنشاوي!
ولم تمر سوى أيامٍ قلائل حتى ترحَّلتُ عن مكاني بعد أن تلمَّحت مكاناً شاغراً.. وكم سعدتُ أن كان المكان بجوار عمودٍ جمادٍ، لا غَرْوَ أننا سنُرجِّع معاً أذان رب العباد!



Share To: