سأبدأ كيف ما شاءَ للكلماتِ أن تخرجَ، فلستُ بالشّخصِ المثقّفِ والمُطّلع الذي يلمّ بأدواتِ الكتابةِ وبناءِ القصّة، ولأنّ الحياةَ لم تكن كريمةً معي لأرتادَ الجامعاتِ، والأكاديميّاتِ المُتخصّصةَ؛ لأسبابٍ متطاولَةٍ عدّةٍ لا أرغبُ بذكرِها.
سأكتبُ ببساطةٍ دونَ استجداءٍ أو إبرازِ شيءٍ مِن العضلاتِ العقليّة والمعرفيّة؛ فعقلي وجسدي ضئيلانِ؛ جرّاءَ ما تعرّضتُ له وعايشتُه، وأعايشُه!
منذُ فترة ليست بالبعيدةِ عُرض عليَّ عملٌ جديد (مكتبة) خارجَ المحافظةِ التي أقطنُ فيها، بعدَما كنتُ أعملُ على الرّصيف- بائع كتب بسطةٍ- قَبلتُ العملَ دونَ تردّدٍ رغمَ المخاطرةِ، وخرقِي لقانونِ البلدِ المستضيفِ لنا- يُمنع عملي بائع-؛ بحكم اللّجوء ممنوع! لكن لا بُدّ مِن المغامرةِ، فلا يُمكن لأيّة عائلة أن تعيشَ بدخلٍ ما يقاربُ سبعين دولار (مساعدة المفوضيّة للأمم المتحدة) ولاستمرار عيشِنا على حافّة الحياة والشّغف!
ضنكُ العيش يخنقُ، والدّيون تأسرُني، والالتزامات التي لا طاقةَ لي بها تزداد: علاجات، أجار المنزل المتأخَّر عن سدادِه أشهرًا... كان لزامًا أن أبيتَ داخلَ المكتبةِ، حملتُ أحلامِي، وفراشِي وبعضَ الأشياءِ الخاصّةِ، وبعضَ العناوينِ من مكتبتِي الشخصيّة وذهبتُ إلى المكتبة.
بعدَ الوصولُ رتّبت كلّ شيءٍ حسبَ رغبتِي ورؤيتِي الشّخصيّة والبسيطة للأنسب.
أبدأ يومِي في الصّباح؛ عندَ الأستيقاظِ أرتّب فراشِي وأغتسل، وأُعدّ فطوري: زيت وزعترًا، وقرصًا من الجبنِ أتناوله، أرتدِي ثيابي وأخرجُ بعدَ إغلاقِ بابِ المكتبةِ، وهذا غالبًا يكون في السّادسةِ صباحًا، أحثّ الخُطى باتّجاه الشوارعِ الخاليةِ واضعًا يدي في جيوبي لساعةٍ مِن الزّمنِ، أتأمّل الأشجارَ التي تصادفُني، ألقي عليها التّحيّة دونَ تلفّظها، وأشكرُها لعظيمِ منحِها، والعصافيرَ النّشطة التي تُطرب سماعِي، وأسرح بخيالِي الحالِمِ إلى ما أرنو إليه وإلى ما يُسعفني به خيالي الجامِح الحرونِ!
أعود بعدَها إلى المكتبة وألجها، أرتّب بعضَ ما خلّفتُ من فوضى على طاولتي، وهذا نادر الحدوث، أُسقي زهرتيَّ الأثيرتينِ وألقي تحيّة الصّباح عليهما، أُنفضُ ماعلق من الغبار على أرففِ الكُتب، أُحيّي بعضَ المؤلفين فقط، ولا أنكر عنصريّتي هنا! مردّ هذا يعود لما قدِم وأثَر..
أُعدّ قهوتي السّوداء التي أستطيب مرارتها، أتصفّح رسائلَ الزّبائن سريعًا وأجيب عليها أمّا رسائلي لا أحفلُ بها كثيرًا؛ لأنّ ما أنتظرُه لا ينتظرُني!
ولطالما كنت ولازلت سيّئًا بالتّواصل بكلّ أصعدتِه!
أفتح كتابي الصباحيّ الذي بالضّرورة أن يكون شعرًا، ورفيقِي هذه الأيّامَ (نيرودا، أشعار الربان) لفترةٍ مِن الوقتِ بين النّصف ساعة أو ساعة، بعدَها أُغلقُه وأنتقلُ إلى الكتابِ الرئيسيّ هذه الأيامَ رواية (عرق الآلهة- حبيب عبد الرب سروري) أوووه!
لطالما وما زال هذا الأديبُ والمفكِّرُ، المثقّفَ الشّموليَّ يأسرُ كلّ جوارحِي بما قدّم ويقدّم، وبشخصِه المتواضعِ المثاليّ الأسمى.
اقرأ هكذا ما أُتيح لي من وقتٍ، وأدوّن بعضَ الشّذراتِ وما يدورُ في خُلدي، ملاحظاتٍ بسيطةً، وإذا ما قدِم زبائن أُلبّي احتياجاتِهم مع ابتسامةٍ مُتكلّفةٍ ثقيلةٍ، فشفتايَ مُتحجرتانِ؛ لأنّني لم أعتد عليها، ما رأيتُه وعشتُه جعلني أعتادُ العبوسَ! ونادرًا ما أستفيضُ بالحديثِ؛ قد أسلفت مردَّ ذلك، سببٌ آخرُ أسعفني به القدّيسُ أوغستين: "إن لم يسألٰني أحدٌ عن الموضوع، فإنني أعرفه، أما إن سألني عنه أحدُهم، وأنا أود شرحَه له، فإنني حينئذٍ لا أعرفُه".
مكتبتنُا هذه روّادها أقلّاءُ جدًّا، ولستُ أعِي هذه الحالَ! هل الإقبالُ على القراءةِ قليلٌ أم ثمّة ظروفٌ أخرى فضفاضةٌ!؟
يبقى "روتيني" كلُّه القراءةَ إلى أن يحين موعدُ الأغلاقِ، أغلقُ المكتبةَ على نفسي وأدخلُ المستودَعَ الصغيرَ الذي أنامُ داخلَه، أغتسلُ وأبدِّلُ ثيابي وأحضِّرُ عشائيَ البسيطَ الذي أتناولُه دونَ شهيّةٍ كبيرةٍ؛ لأنّني أفتقر إليها منذُ نشأتِي، وبعدها أرفعُه، وأقومُ بعمليّة تنظيفٍ سريعةٍ للمساحةِ الضيّقة.
أجلسُ على فراشِي الملاصقِ للحائطِ الفارغِ إلّا مِن هذا الأخير، بوضعيّتي المعتادةِ التي لم أفارقْها منذُ سنينَ عدّة.. أسندُ ضهريَ للحائطِ، ألصِق رجليّ بصدري وألفّ يديّ على ساقَيّ، واُسقطُ رأسي بأعوام شقائه على ركبتيّ وأنسلخُ مِن وجودي الماديّ وكلّ ما يصلُني بالواقعِ الأفلِ؛
أفتح قبوي(عقلي) المُشبعَ بالعفونةِ والرّطوبةِ والأفكارِ المشوّهةِ،
أهبطُ..
فأُطالعُ كلَّ ما في هذا العالَمِ مِن حوادثَ بتأنٍّ مُفرطٍ، وحساسيّةٍ عاليّةٍ، أُقلّبُ، أهدمُ، أبني، أهذِي، أحلمُ، أطيرُ... إلى أن يغلبني النعاسُ، فأتمدّد وأسحبُ الغطاءَ، أتكوَّرُ، أتقوقَع على نفسِي، أُخفي جسدي الهزيلَ كلَّه، العليلَ، وهذه أيضًا عادةٌ لم أرغب يومًا بالخلاصِ منها، لا أتمكَّنُ مِنَ النّوم حتّى أخفي جسدِي كلّه! وكأنّني أهربُ مِن شيءٍ أجهلُ كنهه وهكذا...!!
------------
هامش: ثمّة تفاصيلُ تظلّ أثيرةً، أنّى لها من العُريّ العامّ!
Post A Comment: