هذه المحاضرة أنشرها من أجل المهتمّين بواقعنا وما آلَ إليه، ومن يتوقون إلى تغيير هذا الواقع تغييرا جذريًّا من خلال إعادة بناء إنساننا العربي فهو الفاعل الحقيقي، وهو الباني لذاته ولواقعه: حاضره ومستقبله. فالإنسان هو الركيزة الأساس الذي يقيم وتُقام به الحضارات وبدون فعاليته لا شيء يُنجز قط.
في هذه المحاضرة..
أحاول أنْ أركّز على بنية “الإنسان العربي” كيف تشكّلت هذه البنية حتى أصبحت على ما هي عليه الآن. كيف تحوّل إنساننا العربي من المروءة إلى الخِسّة والنّذالة، ومن الأنفة إلى الذل والصَّغار، ومن الإباء إلى الخنوع والمذلّة، ومن السماحة إلى التصلّب والتشنّج ومن التعقّل إلى الكفر بهذا العقل حتى أصبح “العقل” مفهوما مفرّغا من معناه، يعني أي شيء إلا هو.
كيف أصبح إنساننا العربي أذلّ خلق الله، وكيف أصاب صورته كل هذا التشوّه الذي نراه حتى تغلغل إلى أعمق ما فيه – وجدانه – حتى كاد أن يُطفئ مصباح هذه البنية، فكاد أن يعمّ الظلام.
كلماتي هذه ليست جلدّا للذات العربية ولا افتراءً عليها، بل هي واقعنا الذي نعيشه بالفعل، واقعًا حقيقيًّا نعاينه عين اليقين لكنّنا مسلوبوا الإرادة، نكاد أن لا نحرّك ساكنًا، ندري ما نحن فيه ولا ندري.. تيه، هوة، ضياع، ظلمة، ظلام، ليلٌ امتدّ طال وطال.. ، سَمّه ما شئتَ، فالحقيقة التي نعانيها واحدة، أنّ هناك خللًا ما في بنية الإنسان العربي وأنّ علينا إعادة عمليّة البناء من جديد.
أقول: إنْ تمكّنت من معالجة هذا الموضوع بما يستحق من دقةٍ وجهدٍ وكفاءة، وإنْ تمكنّت من توصيله إليكم، ونفذ إلى عقولكم وقلوبكم، أكون قد أدّيت واجبي في هذه الحياة وأكون قد أكملت رسالتي. وإني لأرجو ذلك وأتمنّاه.
وقبل أن أَلِج في هذا الموضوع أودّ أن أقصّ عليكم حكاية حقيقيّة، حدثت بالفعل، حدثني بها عسكري كبير كان عليه أن يحضر دورة في التدريبات العسكرية في بعثة إلى معسكر أجنبيّ. قال: كنّا مجموعة من العسكر من دول عديدة فكُلّفَ كلٌ منّا بمهمة حفر خندق يكفي لاختباء شخص واحدٍ فيه عند الحاجة. وأنّ عليه أنْ يطمر هذا الخندق ويعيد الأرض كما كانت قبل الحفر وكأن شيئا لم يكن، وكان فينا أمريكي من أصول إفريقية ومجموعة من العرب.
بعد سماع الأمر مباشرة من القائد قام الأمريكي وحمل مِعوله والمجرفة وأخذ يحفر ويحفر بكل جده واجتهاده حتى أتمّ عمله. وبعد أن انتهى جاء وجلس معنا. سأله واحدٌ منّا: لِمَ لمْ تنتظر حتى تشرب الشاي معنا ثم تقوم بالمهمة. ثم يا أخي كما رأيت فإنّ القائد قد ألقى علينا أمره وذهب، فلا رقيب ولا حسيب، ولن يتحدّث أحدنا عن الآخر فلِمَ نقوم بهذه المهمة التي لا أرى لها معنى من أصله، ولا جزاء عليها ولا شكورا. ولا عقاب لمن لا يقوم بها! إنْ هي إلا تدريب لا غير، يستطيع أي منّا عمله بسهولة في أي وقت. فأجابه الأمريكي: لا أستطيع أن أفعل مثلكم. إذ لا بدّ لي من القيام بمهمّتي على أكمل وجه، سواء كان هناك رقيب أم لم يكن، ثم جلس وأخذ يتحدّث إلينا دون أن يبدي رأيه بتسويفنا أو امتناع البعض عن إتمام هذا التدريب!
من تلك الحكاية البسيطة نستنتج مدى أهمية بناء الإنسان بناءً سليمًا، يؤدي إلى تشكيل نواة ضمير حيّ لا يُخترق، وهذا الأمر يُحتّم عليّ أن تكون معالجتي هذا الموضوع من خلال عدة محاور أهمّها المحور الواقعي منذ بدايات تشكّل هذه البنية وحتى لحظتنا الراهنة هذه.
ولن أصدّع رؤوسكم بنظريّات قد تصح وقد لا تصح. نظريّات قد توغل في التّنظير حتى تبتعد تمامًا عن واقعنا. نظريّات في التربية والفلسفة إن صحّت لمجتمعات معينة – نبتت من عمق احتياجاتهم هم – ربما لا تصحّ هنا في عالمنا العربي بسبب خصوصيّته التي تحتاج إلى منهجٍ خاص بها. ورغم أنّ الإطلاع على ما هو علميّ من تجارب الآخرين يفيدنا بالتأكيد، كما أنّه ليس من أهدافي هنا استعراض معلومات تزخر بها الكتب ويمكن لأي منّا الحصول عليها بكبسة زر، ولا تقديم بحث أكاديمي. بل سأتحدث إليكم من خلال العقل ومنطقه وكيفية تفاعل هذا العقل مع واقعنا المعاش من جهة، ومع النّص الدّيني وما نُسج حول هذا النّص من فكرٍ من جهة أخرى، إذ أنّ هذا الفكر الدّيني، بعد الواقع، هو الذي جعل بنية إنساننا العربي على ما هي عليه الآن. الفكر الدّيني وليس الدّين ذاته، علمًا بأنّ هناك عوامل كثيرة قد وَجّهت هذا الفكر، وجّهته وجهات معينة جعلت شخصيّة العربي عامّة والمسلم خاصّة شخصيّة تحمل في ذاتها تناقضات تكاد تقضي على معظم الإيجابيّات التي كان من الممكن أن يكتسبها من أهمّ ثلاثة محاور هي: العقل والواقع وثوابت الدّين.
وفي هذه المعالجة بالذات لهذا الموضوع أحتاج إلى جدّيتكم في النّقد والتّمحيص لكل فكرة، فالنّقد يُثري المحاولة ويعمّقها أكثر بكثير من الموافقة. والعمل الجماعي من خلال النّقاش والتّحاور يصل بنا حتمًا إلى أقرب نقطة، بل إلى غايتنا النهائيّة، ألا وهي أفضل السبل لبناء إنساننا العربي كما ينبغي أن يكون.
والموضوع محل خلاف حاد، وهو متشعب جدا ومعقد إلى أبعد الحدود، وهو في الوقت ذاته إجابة من عدة إجابات عن سؤال طُرح منذ بدايات القرن التاسع عشر ولا زال يُطرح حتى وقتنا الراهن: لماذا تخلّف العرب وتقدّم غيرهم؟
إنّ الفكرة الأساسية التي سأطرحها – كما سبق أن نوّهت – هي فكرة بسيطة جدًا ولكن مقابل ذلك إن طُبّقت ستُحدث ثورة حقيقية، وقفزة نوعيّة عمّا نحن فيه إلى ما نصبو إليه، ذاك أنّ فعاليتها قويّة ومؤثّرة وذات ديمومة.
جميعنا يدرك أنّ هناك خللًا ما في بنية إنساننا العربي، في تكوينه النفسي، في بنيته العقليّة والوجدانيّة. هذا الخلل موجود في كل منا ولكن بنسب مختلفة، ويزداد تأثيره في منظومتنا الإجتماعيّة كلّما كان الفرد منّا ذا مكانة حسّاسة ومهمّة.
والكثيرون إنْ لم يكن معظمنا يظنّ أنّ سبب ذلك هو الإبتعاد عن الدين، قيمه ومبادئه وشعائره. والحقيقة أنّ السبب في هذا الخلل يكمن في بنية الإنسان ذاته قبل أن يتلقّى الدين وتعاليمه.
إنّ الخلل الحقيقي يكمن في تغييب العقل، في استلابه، في إضعاف فاعليته التي ما أن ترتقي حتى تتحوّل إلى وعي ومن ثم إلى حسّ نقديّ، في مقابل تنمية العاطفة وحدها.
إنّ طرحي أو فكرتي الأساس هي التركيز على بناء عقل حرّ دون تدخّل أي اعتبارات أخرى. عقل يحتكم إلى الواقع وحده. يتفاعل معه بكل موضوعيّة، بمعنى أن يجادل هذا العقل مفردات الحياة من حوله من خلال منافذ المعرفة: حواسه جميعها، ممّا يعني أن يتمّ التأسيس لعقلٍ على اتصال حقيقيّ بواقعه أوّلًا وقبل أي شيء آخر.
وكنتيجة لذلك يتشكّل لدى هذا الإنسان معايير واقعيّة يحتكم إليها، يزن بها، لتكون هي مرجعه وأرضيّته الصلبة التي يقف عليها. وبهذا أكون قد شكّلت عقلًا ناقدًا من جهة و ضميرًا سليمًا صادقًا من جهة أخرى. ولكن كيف أنفّذ ذلك؟
والجواب: أنني ومنذ سنوات عمر الطفل الأولى وحتى السابعة أو التاسعة أركّز فقط على بناء معايير الصّح والخطأ، الصادق والكاذب، السليم والفاسد، الضار والنافع، وهكذا.. وأثبت له أنّ الحقّ هو ما يتحقّق في واقع حياتنا. وأنّ المعقول لا يكون معقولًا إنْ كان متناقضا، ومقابل ذلك لا أركّز على معايير العيب واللائق، أو المرفوض والمقبول إجتماعيّا، ولا الحلال والحرام دينيّا.
ولكن لماذا؟
لأنه حينها سيتشكّل لديه معيارًا آخر قد يتناقض مع تركيبته العقليّة المنطقيّة التي فُطر عليها. والتي لا تعترف إلّا بما هو متناسق لا تناقض فيه، ولأنّ معيارًا يدخل فيه مفهوم “العيب” معيار مخاتل، سهل الإختراق، غير حقيقي ونسبي. فما هو عيب في مجتمع ليس بعيبٍ في مجتمع آخر.
ثُمّ إنّ تداخل هذه المفاهيم سيخلق في ذات الإنسان صراعًا بين ما يجب أن يكون وما هو مفروض من قِبلِ عادات وتقاليد المجتمع إنْ لم تتجانس معاييرها مع العقل.
وقد يسأل سائل: كيف يكون معيار العيب سهل الإختراق؟ والجواب لأنّ هذا المعيار غير أصيل في الذات الإنسانية بل هو دخيل عليها، فبمجرد أن يتمكن الفرد من اختراقه يفعل. ليصبح أمام النّاس شخصًا يختلف عنه بينه وبين ذاته، وقد يرتكب من الأفعال اللاأخلاقية بالخفاء ما لا يفعله أمام الآخرين.
وكيف يكون اختراق “الحرام”؟ فرغم أن “الحرام” مفهوم دينيّ إلّا أنّ حضور المجتمع كرقيب على هذا الفرد أو ذاك يحوّل المسألة من الحلال والحرام – أي من التقوى – إلى “الرياء”، ممّا يعني الإرتداد إلى مفاهيم من قِبل العيب وغير اللائق. فيبقى المعيار من خارج الذات لا من داخلها. فأعظم رقيب على الإنسان هو نفسه. كما أن ارتباط المفاهيم الدينية جميعها بالجزاء الأخروي “فقط” يضعف صرامة المراقبة الذاتية إنْ كانت ضعيفة أصلا.
وهذا يجعلنا نرفض نظام المكافآت في تربية النشأ بداية، إذ أنّ الثواب على فعلٍ ما وبخاصة نظام الجوائز والعطاءات قد يقوّي الفاعليّة حينًا من الوقت لكنه يضعفها فيما بعد، لأن الجزاء الحقيقي ليس بتلك العطايا المباشرة بل بما سيفيد الفرد في مستقبل حياته ككل. وتلك الفائدة قد لا تكون حاضرة حضورًا آنيًّا مباشرًا.
الآن، وبعد أن أصبح الطفل وقد تجاوز السابعة أو التاسعة من عمره، وقد تشكّلت لديه معايير صلبة ثابته، ومن داخل تركيبته الذاتيّة، بعيدا عن أية مؤثرات غيبية أو مخاتلة غير واضحة، أبدأ بتنمية وجدانه تنميّة دينيّة بعد أن أَحْكَمتُ ربطه بالعقل وبمنطقه من جهة وبالواقع وأحداثه من جهة أخرى.
أبدأ في هذه السن “المقترحة” بإدخال مفاهيم الحلال والحرام، المباح والمكروه.. إلى آخر المفاهيم الدينية كلّها، أي بعد أنْ أكون قد مهدّت له صلة صحيحة سليمة بتلك المفاهيم. كأن أقول له مثلا: الكذب سيؤدي إلى خسارتك على المدى الطويل لكل خير ترجوه ولهذا طلب منا ديننا بأن لا نكذب حتى وإن ظننا أننا تخلصنا من مأزق أو انتصرنا في موقف. ونمضي هكذا معه من أجل أنْ نبني القيم الدينية على قيم واقعية أثبت العقل كما الواقع صدقها وأهليّتها.
وقد يسألني سائل: لماذا هذا الترتيب في بناء هذا الإنسان؟
وأجيب، لتكون لديه منظومة يصعب اختراقها، وليصبح لديه حسًّا نقديًّا يرتكز على معايير سليمة وواقعية، ولكي يقبل أو يرفض كل ما يمكن أن يقبله أو يرفضه من خلال عمليّة منهجيّة رُبيّ عليها، ولكي يستقبل النّص الديني بكامل وعيه وليس بعاطفته فقط. وليكون قادرًا على انتقاد كل رأي يخالف العقل ومنطقه، ويخالف النص الديني في آنٍ معًا، فيكون نتيجة لذلك كله، حرًّا حرية مسؤولة عاقلة.
ويمكنني تلخيص أهميّة هذه المنهجيّة في بناء إنساننا العربي بما يلي:
أولًا: سيتشكّل لديه ضميرًا داخليًّا يصعب اختراقه، وهو ذاته نواة لضميره القيمي الديني.
ثانيًا: لن تكون هناك تناقضات بين قناعاته وسلوكياته وتعاليم دينه.
ثالثًا: لن يكون مراوغًا ولا مرائيًا.
رابعًا: سيكون عنيدًا جدًا في الحقّ، سواء في القبول أو الرفض حتى يقتنع، ممّا يزيده تمسّكًا بالحقّ وثباتًا عليه، فلا يكون إمّعة، لكنه مقابل هذا مَرِنًا، إنْ وجد أنّه على خطأ ينصاع للحق. ونتيجة لذلك لن يتقبّل العبودية بحال من الأحوال.
خامسًا: من يكون بكل تلك المواصفات السابقة سيصبح مبدعًا، لأنه لا يفكر بذهنية أفراد القطيع. بل هو ثائرٌ أبدًا على السائد طالما لا يتفق مع العقل ومنطقه من جهة، ومع ثوابت الدّين من جهة أخرى.
سادسًا: كون هذا الإنسان يختار عن تعقل لا عن عاطفة فقط، يهذّب نوازعه وغرائزه إذ يعقلها كما تُعقل العقلة فهو إذ ذاك شخص ذا إرادة قوية، يبني ولا يهدم.
سابعًا: ولأن الحقّ لا يضاد الحقّ بل يوافقه ويشهد له، كما قال “ابن رشد”. فالدين لا يتنافى مع العقل إلّا إن كان هناك خلل ما في الأسس التي يقام عليها العقل، أو أنّ هناك خطأ ما في فهم النّص الدّيني.
ثامنًا: هذه المنهجيّة في بناء الإنسان تخلّصه من سيطرة الفكر البشري على عقله إذ يتخلص من قدسيّة هذا الفكر وإن ارتبط بالنص الديني.
تاسعا: مثل هذا الإنسان يدرك أن الأديان لم تتنزل إلا لترتقي بالإنسان من خلال قيم ومبادئ تبني ولا تهدم، لكنّها تتطلب إنسانًا واعيًا ليستقبلها كما ينبغي. فإن كان العقل يعتقل نوازع الإنسان وغرائزه فالدين يُكمل هذا التعقيل ويُحْكمه. بمعنى يصبح هناك معيار داخلي في الإنسان ذاته وآخر خارجي، يلتقيان لتفعيل قدرة الإنسان على التحكم بنفسه والسيطرة على نوازعه وغرائزه، وسائر فعاليّاته في الحياة.
عاشرا: غياب مثل هذا النهج المتكامل قد يضعف الإرادة كما قد يضعف الحسّ الّنقدي للذات وللمجتمع ككل. وقد يجعل الإنسان تابعا لغيره، عاطفيّا ينساق خلف غيره بكل سهولة.
لقد كان كل ما سبق “محاولة مني لبناء إنسان عربيّ” أُقدّم العقل فيها على العاطفة، فيها تأصيل ذاتيّة إنساننا العربي تأصيلًا موضوعيًّا، ولكن لو أردنا إيجاد جذور هذا النهج من خلال التّأصيل الدّيني يمكننا طرح السؤال التالي: متى يتوجب على المسلم ان يُقيم شعائر دينه، متى تُقبل شهادته، متى يُحاسب دينيّا على أفعاله، ومتى يُصبح مسؤولًا مسؤوليّة تامّة عن كل ما يصدرعنه؟ والجواب، عندما يصبح بالغًا راشدًا عاقلًا. هذه الصفات لن تكتمل في شخص إلّا إن رُبيّ تربية تُنمّي عقله وحواسه – منافذ المعرفة لديه – دون تدخّل القيم الدينيّة والاجتماعيّة بداية حتى لا تختلط لديه المفاهيم. أي أنّ هناك فترة إعدادٍ لابدّ منها. هذه الفترة نحن كمسلمين – أو متدينين بأي دين، أو أتباع لأي معتقد – أهملناها تماما، وقمنا بحشو أدمغة النّشء، وألزمناه بما لا يجوز أن يُفرض عليه أصلا في هذه الفترة من حياته. أي ما قبل سن الرشد. وهذه سن تختلف من مجتمع لآخر لكنها لن تتجاوز سن البلوغ.
ولو أردنا أيضا تأصيل هذا النهج تأصيلا إسلاميا بما يتوافق مع ما سبق فسوف نجد أنّ ذلك النهج قد طُبّق في خلق الله للإنسان إذ خلقه فسواه ثم علّمه الأسماء كلها، وبعد ذلك أخضعه للإمتحان – أقصد أمْرَ الله سبحانه لآدم وزوجه بالإمتناع عن أكل شجرة معينة في الجنّة – .
لقد خلق الله آدم وجعل له “مصباحا” في ذاته ذاك الذي أُطلق عليه – الأنا، قدس الأقداس، النّفس، الذات – ليكون قادرا على الإختيار، ذا إرادة وليس متلقيا وحسب. ليكون صالحًا لإعمار الأرض. تلك الوظيفة التي جعلها سبحانه خاصّية من خصائص هذا الإنسان،وهي ذاتها تطبيق لمفهوم العبادة معنىً وسلوكا. فليست العبادة مجرد تطبيق شعائر معيّنة فقط ولكن هي نهج متكامل. لا يكتمل إلا باكتمال العقل أولًا وقبل كل شيء، ليكون جاهزًا لحمل الأمانة التي كُلّف بها حسب التصوّر الدّيني.
لذا نجد أنّ هذا النهج في مثل هذه التنشئة لا تروق لحاكم دكتاتور، ولا تسود في مجتمع متسلط. ذاك أن مثل هذه التنشئة تشكّل سدًا منيعًا أمام المتسلّطين وأهدافهم المنحرفة عن الحقّ والصّدق إلى الفساد والإفساد والمصالح الذاتية.
وقد يسألني أحدهم، وماذا بشأن من تجاوز سن الرّشد ولم ينشأ على مثل هذا النهج من التنشئة؟ والجواب أنّ باستطاعته أن يعيد برمجة ذاته بما يتوافق مع هذه المنهجيّة وبكل سهولة. ليس عليه إلّا انْ يحتكم إلى عقله ويشكّل ذاته من جديد، خاصة إن كان أب أو كانت أمًًا، وإن كان – أو كانت – ممن يقومون بالإشراف على النشء بأي صورة من الصور.
هذا النهج إن تسرّب إلى الثقافة والفكر عامّة فإنّه سيكون ذا فاعلية عظمى إذ يتشربها “الشخص” بطريقة غير مباشرة. بلا وعي منه وتصبح من مكوناته الذاتية. ولهذا نجد أن الشخص “المتسلط” ايٍ كان وفي أي موقع من المجتمع يحارب مثل هذا التوجّه. كذلك في المجتمعات الثيوقراطية يحدث الأمر ذاته. وأكثر من يحاربه هو السياسي الفاسد، إذ كيف يمكنه السيطرة على إنسان حرّ ذا عقل ناقد وإرادة قوية، لا يقبل أو يرفض إلا عن دليل.
الأديب، الفنان، المفكر إن كان حرّا مبدعا – قد نشأ على ذاك النهج العقلاني – سيقع حتما تحت ضغط كبير في مجتمعات متخلفة ثيوقراطية من قبل أشخاص تتعارض مصالحهم الشخصية مع الحق الذي يقاومون تسيّده. فالأدب والفن والفكر، أدوات ومناهج فاعلة ومؤثرة جدا في عملية التغيير المطلوبة إن التزمت الأفكار ذاتها التي تُعلي من مكانة العقل وقيمه ومبادئه. فإن كانت تلك القيم والمبادئ نسبيّة في الفكر الإجتماعي التقليدي فهي في الفكر العقلاني وإن كانت تؤدي إلى المرونة في ذاتية الشخص إلّا أنها أكثر صلابة وديمومة.
ولكن كيف نوصل مثل هذه الأفكار إلى النّشء وبأي الأدوات؟ والجواب يكون ذلك من خلال اللغة ومن خلال السلوك الذي يُحتذى به. فاللغة كما أرى هي الفكر ذاته، هي المرآة التي نرى فيها عمق الإنسان العقلي والوجداني وهي صورة صادقة لدى من يتّسم بالصدق، ومرآة مشوهة لدى المراوغ والكاذب.
ولذا قد يصادف من تمت تنشئته تنشئة عقلانيّة الكثير من العراقيل والمآزق التي سيقع فيها. كما قد يواجه الكثير من الصدمات التي يتوجّب علينا إعداده لمواجهتها.
وكما أي مفكر أصيل مطّلع على معظم الأفكار التي نُشرت وتُنشر عشت صراعًا حقيقيًّا بين هذه الأفكار المتناقضة وتلك التي أقيمت عليها ثقافتي الخاصة التي وددّت أن أجمعها في بوتقة واحدة تنتج كلًا متكاملًا متناسقا، ما بين حسيّة جذرية وعقلانية تتفاعل مع مدخلات هذه الحواس، وكذلك الجانب الذي علينا أن لا نغفله، ألا هو الجانب الروحي في الإنسان، ولكن كيف لي أن أوفّق بين هذه الجوانب جميعها والتي قد تبدو للبعض أنها متناقضة وأراها تتكامل في ذات الإنسان لتجعل منه كائنا يعيش حقيقته التامّة الكاملة.
لذا عملت على أن تكون لي في هذا الأمر رؤيتي الخاصّة والتي اننبثقت من المصدر ذاته ألا وهو الوعي. وقد سبق لي أن قلت أنّ البناء العقلي الواعي للإنسان هو النواة الصلبة التي لا يمكن اختراقها إن تمكّنا من بنائها بناءً سليما وعلى أسسٍ واضحةٍ ووفق قيمٍ ترتقي بهذا الإنسان، ليكون هو أس بناء مجتمعنا العربي، ويكون هو الفاعل الحقيقي في بناء الحضارات. وبهذا يصبح قادرا على التصحيح وإحداث التغيير المطلوب والمأمول.
ثمّ إنّ أخصّ خصائص توجهي الفكري وأهم ما يهمني هو النّظر إلى الإنسان على أنّه قيمة القيم وجذرها الأساس، هو القيمة الأولى المطلقة، وكل ما عداه متعلق به منبثق عنه. فأنا أنظر إلى كل فرد في المجتمع البشري على أنه قيمة بحد ذاته بغض النّظر عن جنسه أو عرقه أو وطنه أو طائفته الدينية أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها، ثم إنني أنظر بعد ذلك في تلك القيم المضافة التي تَمكّن الإنسان من تحقيقها ليثري بها ذاته، فتزيد من قيمته ولا تنتقص من قيمة غيره. من هنا نلتقي جميعا كوحدة إنسانية واحدة، كل منّا جزء يُشكل مع الأجزاء الأخرى وحدة إنسانية متكاملة.
ومن هنا أجد لزاما علينا نحن المسلمين أن نُعيد ترتيب سلمنا القيمي المتجذر في ثقافتنا من أنماط حياة، وفنون وآداب وفكر مبثوث في كل ذلك أو أفكار مجردة يتناولها المفكرون بالدراسة والبحث والتحليل والنقد.
نجد لزامًا علينا أن ننظر إلى الحياة – متمثلة في نفوس البشر جميعا – على أنها هبة، من واجبنا الحفاظ عليها، بحيث لا يحق لأي كان أن يسلب هذه الهبة تحت أي ظرف، فيشعر الجميع بالأمان والاطمئنان، وأن نجعل من الحفاظ عليها أعلى درجات سلمنا القيمي، لتأتي بعد هذه القيمة قيمة أخرى جوهرية مرتبطة بها، ذلك أن عدم الحرص عليها يؤدي بدهيًّا إلى الضّرر بأقوى المجتمعات استقرارًا، ألا وهي قيمة “حرية المعتقد”، لنتعايش جميعًا مهما كانت الأديان السائدة في هذا المجتمع أو ذاك، فجميع الأديان ما جاءت إلا لتعلي من قيمة الإنسان وتجعله ذروة سنام القيم، ولترتقي بروحانيته.
كما أن علينا أن نعمل على سد الفجوة بين ما هو ذهني خالص وجسدي مادي حسّي، فيلتقيان فيما هو روحاني من خلال نشر مجموعة من القيم الإيجابية التي ترتقي وتسمو بالإنسان من حيث قبول الآخر كما هو دون إرغامه قصرًا على تغيير ما ينتمي إليه من فكر مخالف أو عقيدة، ومن حيث تقديم العون دون انتظار المقابل، ومن حيث تحديد أهدافه في الحياة بحيث لا تتعارض مع القيم الإنسانية التي يقبلها المجتمع الإنساني ككل، والعديد العديد من هذه القيم التي تجعل الفرد يشعر أنه جزء من كل يحرص على الحفاظ عليه.
بهذا نخلق نوعا من التوازن الذي يحتاجه مجتمعنا الإنساني لنعيش سويا كما ينبغي، ولنشكّل خبرات إنسانية راقية بإمكاننا عيشها وتبادل خبراتنا فيها من خلال معتقدات وإيمانيات شديدة التنوع والتناقض أحيانا، لكنها بالتأكيد ستغني تجربتنا وتجعل الجميع أكثر مرونة وأقل تشددا وتعصبًا لما ينتمي إليه. فيكون التقبّل والائتلاف واقعًا لا مجرّد تنظير.
علينا كمجتمع إنساني أن نطلق هذه النواة كل من موقعه لتتسع رقعتها وتمتد وتتجذر في كل مكان من العالم. فالروحانية لا وطن محدد لها، إذ أنها جزء لا يتجزأ من تكوين الإنسان أينما كان، ولا يمكنه أن يحيا بدونها مهما كانت بسيطة أو معقدة. فالكل يعيش ويعاني ما يعانيه الجميع من مشاكل حياتيّة أو أفكار مصيرية تؤرقه. والروحانيات تقدم له الكثير ممّا يطمئِنه، كالشّعور بالرضى عن النفس عبر آليات معينة. وبهذا يكون توجهي محاولة لإرواء الروحانيات جميعها ، ومتنفسا لنا كبشر، إذ ستكون تلك الروحانيّة مساندة نفسيّة مقابل هذه الماديّة التي تجذرت في عالمنا هذا.
إنّ كل فلسفة روحية إنما يعمل أصحابها على خدمة هذا الإنسان من حيث كونه إنسانًا وكفى، إذ لا يمكن لأي كان أن يجمع بين عالمين مختلفين من أقصى التوجهات سلميّة إلى أقصاها تطرفا وعنفا إلا بالمحبة، باحتضان الروح للروح، بتلاقيهما. حيث نعمل جميعا على فك الارتباط بين العنف والدين من خلال تقوية هذه الناحية الروحية التي أدعو إليها وأركّز عليها، بل وأقيم توجهاتي الفكريّة على قيمها النبيلة.
الروحانية كما أفهمها هي الروحانيّة التي تقف ضد العنف لأنها ترتقي وتتسامى بإنسانيّة الإنسان عن مادّيته فلا يتعلق بالمادة وحدها. ذلك العنف الذي لا يتوقف عند حدود تصفية الجسد وحده لكنه أيضا يمتد لما هو أعمق من ذلك وأشد كنتيجة من نتائجه، فقد يُنهي الموت معاناة الشخص المقتول ويؤثّر سلبا على الأحياء من أفراد المجتمع. والعنف المعنوي أخطر إذ يؤثّر على الأحياء ويتحول إلى عنف مادي، فيعمّ القتل والتدمير والتخريب لكل ما يمت إلى حضارة الإنسان بصلة، وإلى كينونته أيضا. ومن هنا نلحظ مدى تداخل العنف المادي والعنف المعنوي في تخريب المجتمعات الإنسانيّة.
كل ذلك العنف الذي يأتي كنتيجة حتميّة للخلل في ترتيب القيم أوّلًا، وللتعصب للمعتقدات والأفكار تعصبًا أعمى لا مكان للتعقل فيه ثانيًا، إذ يقف المتعصب على حدود النّص الدّيني مغيبّا لروحانيّته السمحة، ولا يمكننا التخلص من التعصب إلّا بالاجتماع على نواة الإنسانية ذاتها التي أتت الديانات جميعها لتعلي من شأنها، تلك النواة هي الإنسان ذاته وكل قيمة تعلي من شأنه.
وأنوه بأنني كما أحرص على الإنسان ذاته كقيمة أقيم عليها توجهي هذا فإنني كذلك أحترم تلك الأرض التي يقيم عليها هذا الإنسان كافة نشاطاته بمعنى أن يُحترم وطنه ووحدة هذا الوطن. ليكون الإنسان آمنا مطمئنا حيث كان معاشه وعلى أية أرض يقيم. فلا يخشى تقسيمًا لوطنه ولا تشتيتًا لمجتمعه أو تشريدًا لأفراد هذا المجتمع، فلا بد إذًا من الإعتراف بتلك الوحدة كاملة غير منقوصة بأي حال من الأحوال، فالمكان جزء لا يتجزأ من كينونة الإنسان، والحفاظ على وحدته حفاظ على الإنسان ذاته من جهة، وتأكيد للفكر الذي أومن به وألتزمه إلتزاما تامًا من جهة أخرى.
إنّ أهم ما أدعو إليه إن هو إلا روحانية معقلنة، تعتمد الفكر الفلسفي قاعدة ومنهجا وكذلك ثوابت الدين الذي أدين به، دين الإسلام.
Post A Comment: