لقد اعتاد أن تتمرّد عليه الرياح ، وتلقي بمركبه الصغير على مرافئ الماضي ، لكنه في هذه المرّة وجد نفسه يُجرّ إلى منفىً غير مألوف ، وقف هناك حيث لا شيء سوى مرآة ، نظر فيما حوله من فراغ ، فلم يجد سوى ذلك الواقف داخل المرآة ، يقف مبادلاً إياه الحركات والنظرات ، عرف شيئاً من تلك الملامح ، إنه هو ذاته ، وقد أدرك أن الرياح في هذه المرّة ذهبت في غير الاتجاه ، ذهبت إلى المستقبل ، ووجد نفسه تسكن جسماً انحنى عوده ، وبالرغم من أن خطوط الزمن أمعنت في غرس أظافرها في وجهه ، لكنه كان قادراً على تمييز تلك النظرة في عينيه رغم موتهما ، كانت المرآة قادرة على أن تريه أعماق نفسه ، فوجدها مثقلة بالمخاوف والأمراض ، وهي تقف متكأة على منسأة هشة تتآكلها الذكريات ، وهناك في الأعماق شاهد " الأنا " ، تلك الأنا التي كانت تدفعه لاتخاذ القرارات ، وتوّجه ببراعتها الفذّة شراع العُمر ، فتراوغ باحتراف لتلتفّ حول تلك الكتل الضخمة من الضغوط ، ومشاغل الحياة ومشكلاتها ، وأحلامها ، وطموحاتها ، متجاوزة دون انتباه جزراً من السعادة الحقيقية ،التي كانت كامنة خلف كل ما التفّ حوله من مواقف في حياته ، ووجد نفسه مغمورة كلياً بالندم .
واجهته تلك الأنا معاتبة ، فكم مرة اتخذ قراره البطوليّ بالإقلاع عن التدخين ، والابتعاد عن ملذات الكوليسترول القاتلة ؟ وكم مرة رنّ هاتفه بمكالمة من صديق مشتاق ، ولم يُجب فهو مشغول الآن وسيعاود الاتصال لاحقا ؟ وكم مرة جاءه أطفاله الصغار ليشاركهم اللعب أو قصة قصيرة ، وفي كلّ مرة يطلب منهم الابتعاد ، فهو مشغول كما في كلّ مرّة ؟ وكم مرة قرر أن يخصص لوالديه رأس الأولويات ، ويذهب أبعد من حدود الواجب اتجاههما ، لكنه العمل والإرهاق اللذين يلازمانه ؟ وجد نفسه يسقط في بئر لا نهاية له من قرارات التسويف والتأجيل .
وحيث أنا المستقبل ، بدأ يفتش عن صورته النَضِرة الشابّة ، فوجدها وقد نُحِتت إلى وجه لا يألفه ، واجتهد بالبحث أكثر علّه يجد بعضاً ممن ملؤوا أثيره يوماً برنين الهاتف طمعاً بالوصال ، لكن أصواتهم تلاشت في الزُحام ، وفي لحظة حاسمة وجد أطفاله الصغار كباراً يدورون في دولاب الحياة ، وهم يقفون حيث كان هو بالأمس ، وسكنه الألم على من غابوا تحت الثرى ، شعر بغصة تقبض قلبه وتعتصره ، وكلّ مشاعر القهر والحسرة والندم تحتلّ كل بُقعة فيه ، أفاق على شهقة عميقة ساعدته على الخروج من ذلك البئر حيث هوى ، ليدرك أنّ ما هو عليه الآن أقصى أمنياته ، فهو اليوم كائن حيث تكمن روعة اختلاس لحظات الفرح والمشاركة والبِرّ من بين ركام الحياة ، أدرك أنه أبعد مما هو عليه الآن ، فهو متصل بالحياة بعيداً عن مخاوفه ، وأحلامه ، ومشكلاته ، عندها اتخذ قراره بأن ينتصر لإنسانيته ، فهو لا زال يملك اللحظة ، " فأي المارّ من هنا إليك أقول : كما أنت الآن كنت أنا ! وكما أنا الآن ستكون أنت ! فتمتّع إذاً بالحياة لإنك فان " .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: