نزل مسرعا تلك الصّبيحة يشفط السّلالم مستعجلا ادراك الحافلة، ماشيا يزدرد خطواته، قطع المسافة بين باب العمارة والموقف، في زحمة المنتظرين زحزح بعضهم بخفّة من مكانه ليستقرّ جنب يحي صديقه: 

  • "السيّاسة والصّابون"..

 انفلتت من بين شفتي الواقف على رؤوس أصابعه رامقا إيّاه بنظرة صباحيه يغطّيها عياء النّوم المتكسّر، والبرد المتسلّل من جوانبِ مدينةٍ تتحوّل إلى ثلاّجة عملاقة تتدلى من فوهة مكان مجهول، عندما يريد أن يصنع لهذا المكان هوية، كان يقول: "تعرفون جميعكم مصنع البرد، أين؟"، لكنّه لم يصدّق يوما أنّ هذا المصنع محدّد بمكان، رغم أنّ جميع أهل القصر كانوا يقصدون بالمصنع جهة بعينها. في قرارة نفسه يستذكر جيّدا تلك الليلة من "النّاير" (رأس السّنة)، بعيدا عن مدينته، إذ استقرّت أمام ناظريه المرتجفةُ فيهما صور الأشياء، قصعة "الْبَرْكُوكَسْ" بحبيباتها المضمّخة بالمرق والمتوّجة بالخضر واللحم. حوته غرفة يقبع في زاويتها اليسرى سخّان يوزّع الدّفء كما تدلق السّماء المطر في وجه الأرض، لم يدر كيف ساق تلك الملاعق المتتالية التي كادت تهمل وجهتها نحو فمه لشدّة البرد، مع تتالي اللحظات شعر بالدّفء يتسلّل إلى جسمه النّحيف، حينها تذكّر "الْعَلْفَه" (نواة التمر)، وراح يخمّن في أيّة ناحية من القصعة يمكن أن تكون مدسوسة، ربّما هذه عادتنا ولا وجود لها هنا. مدّد مضيفه فوقه كساء من الصّوف الثقيل جمّد جسمه في وضعية النّوم على الظهر، وتركه للكوابيس الممتعة بعد وجبة "البركوكس".

اقترب من يحي موشوشا، لم يعبأ به، كان وجهه معلّقا في الجهة اليمنى حيث تطلّ الحافلة، قادمة تترنّح بعد أن تكون قد لحست كل متحرّك برجلين. 

تجاهله يحي، وراح يمدّد رقبته في الفراغ بين الأجساد والرّؤوس المتعالية فوق قامته المتوسّطة، لعلّه يرمق مقدمّة الحافلة، شدّه من طرف سترته جاذبا إياه إليه، مدّ يحي يده إلى الخلف دون أن ينظر إليه محاولا التنصّل من قبضته، في هذه الأثناء زمجر محرّكٌ من بعيد في أفق مضلّل بأضواء عمومية ترزأ تحت ثقل الغبار المكدّس فوق زجاجها، فغدت تبعث العتمة بدل الضّوء، حين تبدّى شكل الحافلة، لم يتخلّف في الموقف سوى الانتظار، فرّت الأجسام وخيالاتها صوب المكان المعهود أين لا يمكن للشرطة أن تراقب بطن الحافلة، فتتزاحم الأشكال والجميع ينظر إلى ساعته، حينها كان هو بالكاد يرى عينيه الملتصقتين بيحي حيث فرّق بينهما تلاطم الموج البشري المندفع من غياب المكان والزّمن، ينظر في معصمه، يحرّكه بقوة، يلكز جنب الرّاكب حذوه، يستسمحه، ثم يبعث شرارة عينيه الدّامعتين من البرد في المعصم ثانية، عقارب السّاعة لا تتحرّك.

- هل يمكن أن يتوقّف الزّمن؟ 

يتساءل ثم يعيد الكرّة في تحريك معصمه غير مبالٍ هذه المرّة بالكتل التي تلتصق بأنفاسه.

لم يعد يفكر في يحي الذي تلاشى في بحر الرّؤوس التي تخضّها غمغمة محرّكٍ قديم، وتلاشى أيضا من شاشة عينيه، بتثاقل شديد حرّك رجله  اليمنى على أرضية الحافلة، مفلتا اليسرى المتنمّلة بصعوبة من تحت حذاء لم يتأكد من مقاسه، حاول رفع ركبته قليلا لتتحرّر رجله في الفراغ وتتخلّص من الخذر، فأصاب حوض راكب فاغرا وجهه بوجهه، دوّت أنّةُ مكبوتة في الفراغ المضبوط بزمن السّاعة المتوقّفة في معصمه، يرفع رأسه في توهان مقصود يتغافل به عن الأنّة المكبوتة، ينغرس وجهه في سقف الحافلة، يراه شفّافا لا يحجب نجوم السّماء، ولا البكور الذي بدأ ينفرج عن خطوط فاصلة بين ازرقاق موشى بحمرة واسوداد مخترَقٍ بضوءٍ خافت، في هذه اللحظة يخرق سمعه صوت حنحنة العجلات التي ألجمت حركتها فرملة مباغتة، انفصلت يده فجأة من العمود الأفقي الذي يشدّ توازن الركاب، أفلتت عينيه صفحة السّماء مرتدّة إلى سقفِ حافلةٍ تكدّس فوقه الغبار، هوت يده كأنّما تساقطت من فوهة المكان المجهول للبرد، انتقل خذر الرِّجل إليها، وفي غفلة من الوقت تفكّك سوار الجلد من معصمه، وتناثر في الزّحام شيء كأنّه ساعة، حاول أن يقترب من الأرضية فلم تسعفه جميع الوضعيات:

  • لم يعد لمعصمي معنى، ما أصعب الوصول إلى حواف رجليّ !

وجد نفسه عالقا بين الرُّكب المنثنية قليلا ربّما لتتخلّص من التنمّل، رفع رأسه من أسفل فتراءت له قصعة "بَرْكُوكَسْ" تلك الليلة الباردة مدهونة بالسّمن البلدي وبخار فورانها يتلاشى في الفضاء:

  • ماذا لو أبدلوا "الْعَلْفَة" بالسّاعة؟ 

أفاقته على توقّف الحافلة رُكبةٌ كدمت رأسه، نزلت بعض الأبدان المرهقة، لكن ما تبقّى ظلّ منهمكا بين تسلّل النّظرات إلى النّوافذ من خلال الفُرج بين الأكتف المتشابكة، وبين رفْعِ كمّ السّترات قليلا إلى الأعلى لتُدْرَك عقارب الساعة حاسبةً تعطُّل الوصول في المواعيد. سمحت حلحلة الأجسام لقليل من المساحة أن تتنفّس، فهوى بكل قواه على أرضية الحافلة للبحث عن ساعته، عثر عليها مهشّمة. هشّم دواخله، لم يستطع أن يجد بعض الحسرة، فلقد كانت عقاربها قبْلا متوقّفة، جمع شظاياها وأسلمها إلى جيبه، عندما رفع رأسه، وعبْر النّافذة، كلّ شيء كان يتحرّك مع الحافلة سوى ساعة النقطة الدّائرية.

نسي يحي الذي بدا عالقا بين منكبين عريضين أغلقا عليه كل منافذ التطلّع إلى الفسح التي أتاحها هبوط الركاب، تحاشى لمْس أيٍّ منهما مخافة العراك، فأخوف ما يخافه يحي عراك وسائل المواصلات. اقتربا من موقف النّزول، حنحنت الحافلة، هبطا أمام باب الثانوية الذي كان على وشك الإغلاق، فالزّمن يشير إلى ما بعد انخفاض الأعين عن المعاصم وإسلام السّاعات إلى كهف الوقت، الذي توقّفت حركته مع رقدة الكلب الذي تشير إليه القصّة المعروفة، نظر إلى يحي فأشرق نور الكتاب، وتبسّم في واجهة الثانوية فاستقام الفتية في فراغ الكهف، عدّل من هندامه الذي عبث به زحام الوقت والحافلة واستمتع بصمت الفتية في كهوف الدّرس، غير مستطيع أن يجلي من خياله صورة "الْعَلْفَة" العالقة في لجج "الْبَرْكُوكَسْ":

  • ما أبرد الزّمن في معصمٍ بدون ساعة !

العودة إلى البيت مساءً أسهل من اليسر ذاته، إذ المقهى فاتحة الوقت المنزاح نحو العتمة، وقبلها المرور على مكتب البريد لتفقد صندوق الرّسائل، ينتظر من مارغريت مكرمة "البوناني"(عام سعيد) bonne année كما كان يسمعها من جدّته التي ما فتئت كل حين تستذكر مدام سواريس، التي غادرت مع الاستقلال إلى باريس وليالي الميلاد، حين كانت تستولد الثلج في عزّ فضاء الصّحراء. تنثر ندف القطن على زجاج نوافذ مسكنها الذي يستولي على مساحة كبيرة، والمحاط بحديقة. تمرّ جدّته إلى كوخها، تتطلع في المنظر، تبدو شجرة الميلاد المستقرّة بردهة البيت خلف الزّجاج الموشى ببياض القطن كأنّها في مناخ شماليٍّ قارس، تتحرّر السّبحة المتلاشية إلى الأسفل من ضغط سبابة الجدّة ووسطاها محرّكة حبّاتها في عجلة بالإبهام، مستحضرة الصّلاة على النبي وكل إخوانه من الأنبياء. "الأكيد أن لا أحد من مدعووي سواريس كان يحرّك معصمه"، ردّد في نفسه، ثم أضاف:

  • الوقت كأقراص المرض المزمن تؤخذ بمواعيد مضبوطة. 

البريد على وشك الإغلاق، فتح صندوق بريده، إشعار بوصول طرد، أسرع به إلى شباك الاستلام، لم تخلف مارغريت مواعيدها، بعض الكتب وساعة، تحسّس جيبه ثم مسح معصمه وأحاطه بسوار جلدي سميك منقوش عليه العلامة السويسرية، استلذّ التكتكة عابرا صوب المقهى. كانت الشّمس تسحب بساطها عن مدينته، فسقطت شيئا فشيئا بين مخالب البرد، تحوّلت يداه قطعتا ثلج، كلّما لمسهما حدّث من كان بجانبه عن وصية الطبيب الذي أكد عليه بدهنهما بـــ "الفازلين" وحشرهما في قفّازين، ولم يكن يفعل شيئا من ذلك، دلف إلى منزله، قصد المدفأة، لما شعر بأحاسيس اللهب تسري في داخله، ارتمى على سريره، صوت من أسفل البيت:

ـ من نسي ساعته في الثلاجة؟

     




Share To: