نحتاج للقراءة، قراءة وضعنا العربي أكثر من حكاية باعتبارها "سردية صغرى" بتعبير فرنسوا ليوتار تحقّق الوجود في الذّات وفي التّاريخ على أساس الأمل، وقراءة "العودة من الأشلاء" للقاص بشير عمري، تكشف انطلاقا من العنوان، بنيتين متضادّتين لتشكيل المنحى الصّراعي الذي تحتاجه الذّاكرة والواقع العربيين لينطلقا في مغامرة العودة إلى الذّات في تجلياتها التّاريخية المزهوة بالتّنوير والنّهضة، فالبنية الأولى تمثل "الأمل"، باعتبار "العودة من الأشلاء"، هي عودة من التّاريخ المزدهر المطل على الحاضر المتقهقر، والبنية الثانية "مأساوية"، وذلك لأنّ هذه العودة مدمغة بالأشلاء، أي البنية المفكَكة للتّاريخ والآيلة إلى الاندثار، والصّراع بين البنيتين هو حركة العودة في التّاريخ لأجل افتكاك الصّورة الأنبل لبناء الواقع انطلاقا من نبلها.

الواقع خلاف ما نعتقده من أنّه سهل في بنائيته وبنيانه، إنّه أعقد مما نظن، لأنّ الموضوعة التي تَشَكل منها السّرد في "العودة من الأشلاء"، هي إشكالية عدم رؤية الأب لأبيه، أي جدّ الابن، وهي النقطة التي تفرَّع عنها اختلاف بيِّن بين الأصل والفرع، وهو ما يكشف التفكك في بنية العلائق بين الرّاهن والتّاريخ، إذ لم يستطع العقل والوعي العربيين أن يشيدا مسارا لرأب الصّدع بين الماضي والحاضر والانطلاق من مناطق التفاعل المنتَج بينهما. إنّ العقل العربي لم يستطع أن يتحرّك فنّيا في التاريخ لأجل أن يتحسّس مناطق الفعل الممكن استمراره في الرّاهن.  

"العودة من الأشلاء" نص قصصي يمزج الخيال العلمي بالحقيقة العلمية المستعادة من تفاصيل الخيال، لكن النص يعتصر الذّاكرة لتكون شاهدة على نقد ما اختزنته من مطلقات موضوعية ليست قابلة للمساس بها إلا بـ "حق"، والحقيقة أنّ هذ "الحق" يتضارب مع أسئلة الرّاهن المفتعلة من خلال عقل "الآخر" لتكون ملهاة "علمية" تظهر أنّها جدّية، ولكنّها كلعبة بيد طفل ليترك "أمّه" تشتغل بــ "حرّية" دون إزعاج ممّن يُعتبرون "هامشا" على حواف عملية "الابتكار" المنتصِفة اهتمام "المركز".

 صراع الابن والأب حول استرجاع صورة الجد، يمثل "أنطولوجيا" توظيف المخيال في غير جادته، لأنّ عالم المخيال أوسع من أن تدركه "صورة"، كما أنّ "الجد" بما يمثله من "ماض" أكبر من مجرّد تفاصيل بيولوجية، إنّه مادّة الحياة التي تنبثق من التّاريخ وتتمدّد فيه، وهذه بؤرة الأشكلة في القصّة، حسب ما يبدو لي، لأنّ تواصل صوفيا بما تمثله من حضارة الاستنزاف، استنزاف الثورات والتاريخ والجغرافيا، مع الابن باعتباره يمثل  وضع المستهلِك، هذا التواصل لا يمثل فعلا التشاكل حول الحقيقة العلمية، أو الرّغبة في إيصال كتف العلم إلى الضفة المتخلفة، ولكن كان يرنو إلى  استنزاف جيب الابن في حلقة مفرغة من البحث في قشرة الذاكرة عن طريق زيف "العلم". 

تثير أيضا القصّة إشكالية الصّراع بين الأجيال، الذي لم يحسم فيه الوعي والعقل العربيين بعد، كمعضلة اجتماعية قابلة للتّجاوز، عن طريق ضبط ميكانيزمات الحوار بين آباء يمتلكون ذاكرة "تخزينية"، وأبناء يصيرون إلى ذاكرة "تحويلية"، والعلاقة بين التّخزين والتّحويل عملية منتِجة، بينما كانت صوفيا تحاول طول اللقاء بالابن أن تحتجزها في منطقة "الاستنزاف التاريخي" على مستوى الذاكرة، أي إنّها عوض أن تطلب منه أن يقوم بعملية استخراج للرّفاة وفق ما يتطلبه القانون، راحت تحثه على مجرّد "نبش" عشوائي خارج المنحى "الإنساني" و"العلمي" و"العملي"، وهو ما لا   يمكن أن تفكر به في مجتمعها الذي يتحرّك وفق مسطرة "القانون" و"العقل" و"العلم"، فالمراد موضوعيا من القصّة تأويلا، هو استمرار التوحّش في مناطق الغفلة العلمية والحضارية انطلاقا من تطوّر الغرب القائم على "الاستنزاف" و"الاستغلال" و"التبعية".

يختزن "النّبش" مفهوما سلبيا باعتباره يحيل الفعل إلى مجرّد عملية ذاتية تخريبية، لأنّ عملية تصوير الجمجمة لم تتم وفق متطلبات عملية استخراج الرّفاة المنطقية، وبالتالي لا يخضع النّبش إلى "التفكير" و"الإحاطة" بالموضوع باعتباره علميا وقانونيا، فالمسار الحكائي في القصّة لا يتقصّد الحدث لمجرّد أنّه توارد مجريات وقائعية تستخدم الفن، بل يحاول أن يضع أمام العقل النّقدي عناصر الواقع في انحداره تفكيريا وسلوكيا، فالنّبش يتأسّس لا أخلاقيا، وهو ما يسود الواقع العربي في صراعاته مع ذاته لأجل أن يكرّس النمط الاستهلاكي التابع لا المتحرّر، كما أنّ النّبش يتعلق بــ"القبر" و"الجد"، وهما عنصران حسّاسان من عناصر الذّاكرة الجمعية التي تشمل بحر التّاريخ والماضي بحسبانهما موادا للحركة في الحاضر والتطلّع إلى المستقبل، ولكن مفهوم النّبش يعود على الواقع المتخلّف الذي يتناول به المجتمع العربي أخطر موضوعاته باعتبارها "لا شيء"، أي ليس هناك مخطّط لتناول موضوعات الذاكرة التي ترتبط أساسا بالغرب متمثلا في "صوفيا" بالصّراع والاستلاب الحضاري. 




Share To: