كادت الشهور أن تضيع عدا من أصابع يديها مذ أوحى إليها بالفكرة وغادر سريرها لم يأتها كما وعدها لا برده ولا بقده، حتى لأنها ملت من تحسس أصوات الحيونات، وكلت في خيالها من وهم اختيار  موضع لها في الساحة الكبرى للمدينة، والطواف مع هاجس الجوع يوميا بين زواياها الأربع، فخرجت ساعتها من بيتها قاصدة حافة البلدة..

ولكم تمنت أن يكون أحد في أعقابها، من يترصدها كما كان يفعل كريمو، بدرت منها ضحكة خفيفة من تحت لثامها وهي تذكره..

- آه كريمو

المسكين كان قد اعتاد تتبعها كل صباح كلما أغلقت وراءها باب بيتها الذي لا أحد يعلم كيف حازته من غير تعب مذ حلت قادمة من المجهول بمدينتهم، مغيرة بعطرها الغريب عطر الحي بكل أرجائع وأركانه، حتى إذا ما وصلت موضع قصدها، سجل المكان وصوره في ذاكرته وأحكم حفظ صوره، هذا ما قاله لها ليلة أن قبضت منه راتبه الشهري كله، ولعلها قبلت نزوله بسريرها فقط لتفرغ ما ذاكرته وتعرف ما سجل وصور عنها، فكريمو ليس فيه ما يفتن وليس بجيبه ما يطعم من جوع، فتى غليظ بسمرة بارقة من أثر زيوت السيارات، لا مزيل  للروائح استطاع أن يقمع من عليه رائحة الورشة الميكانيكية حيث كان يشتغل، تزكم خياشيم من يمشون في هواء البلدة الطلق، فما بالك داخل غرفتها الضيقة وسريرها الناعم،  ذكر لها يوم رصدها وهي تستقل خلسة سيارة فارهة لا يقودها سوى سائق السيد الوالي، كانت تنتظرها بوضع قصي وأقر لها أنه لو كان يمتلك دراجة، هوائية حتى، لتبعها لمعرفة أين أخذها! 

فضحكت..

ولم ينسى أن يبوح لها باندهاشه يوم تمكنت وحدها من العبور إلى مكتب مدير البنك، رغم الزحام الذي كان بالوكالة البنكية بسبب قلة السيولة!

 فضحكت أيضا..

لكنه لم يهدأ ليعرف منها الحقيقة وهو يذكرها بيوم رآها تدخل بالليل، بيت فقيه البلدة المجاورة!

- وتبعتني إلى هناك أيضا؟

- ولو كان لك زبون بالقمر لتبعتك إلى هناك! 

كادت أن تصاب بشرقة ذابة من قوة الضحكة التي جلبتها لها كلمة الصعود إلى القمر وهي تشرب آخر جرعة نبيذ بكأسها

- هيا  اخبريني هل كان بك مس الجن ورقاك يومها؟

- ضحكت نافية بهزة من رأسها

- هل الحاجة  إلى شعوذة لقتل الخصوم؟

-ازدادت ضحكاا

- فماذا إذن؟

 

ظلت تضحك مرة بصوت ومرة بدون ماشية وهي تستذكر كريمو الذي افتقدت حسه وهو يشعل لحظة زهزها إذ يتعقبها في ما بين الدروب القديمة للبلدة..

- المسكين ما الذي رماه في مستنقع السياسة؟

قالت وهي تصل مشارف نهاية البلدة

كانت أصوات المدينة وتتدحرج إلى خلفها، متدرجة شيئا فشيئا في الخفوت كما  موسيقى نهاية شارة أفلام الرعب والحب معا التي كانت تعشقها، غير أنه لا صوت ذئب أو دب كلب دوى من داخل الغابة، كادت التفلة الجافة التي ألقت بها من فمها على ظلها أن تقع على حذائها الأفعواني الجلد آخر ما انتزعته منذ خمس سنين من أحد زبنائها بالليل، صاحت في صمت نفسها وهدوء حركتها:

حتى الحيوانات هاجرت بلا إذن وفي  غير موسم هجرتها، أي مدينة هاته التي صارت مثلي لا عضو فيها بات يفتن؟  شعرت حينها كأنها نكأت جرحا قديما..

 الهجرة آه الهجرة! 

تذكرت يوم رجاها بوعود مرافقته باريس والمكوث وإياه ولو على هامش جثتها، باريس، كانت ستغدو حرة هناك فعلا حتى من قيود نفسها، لن يسألهما أحد عن دفترهما العائلي، ولا عن صور زفافهما، ومكان شهر العسل، كانت ستغني في الشوارع غير العربية بباريس عن الحب ولن تصادف أحد شبيه كريمو ليتعقبها خلسة ويسألها عن أي حبيب تغني من العشرات الذين سهرت معهم على أسرة العرب الرملية؟ فيقهقه الجميع، أو كانت ستغني مدائح الصوفية، فتهجى بعار تدنيس المقدس، أو لرقصت شبه عارية فلا أحد يعيرها بذبول مفاتها، فالجسد في عمر فن هنالك لا يذبل، عوض أن تصل إلى حواف الجنون الذي سكن هاته المدينة وهجر حيواناتها!

الحيوانات، عادت إليها مجددا في مخيلتها لتحسدها فيما هي محظوظة بأن تهاجر متى وكيف وأنى شاءت، لا حدود في الهب الدب، لا خجل في الحب، فالكلبة لا تُشتم بإسمها إذا ما رأوها تحب كلب في قارعة الطريق، لأنها كلبة مهما أحبت، في وقت ظلت هي تُنعت بالكلبة لأنها تحمل كرها جسد إنسان، عرش فتن إمرأة، فاقتنعت أنها سيئة الحظ بأنها لم تُخلق في مملكة الحيوان، لعنت العقل والوعي الذي يمشي بقدمين في الهواء.

استدارات بعدما رأت الشمس تغطس بنصف قرصها في هواة خلف الجبل، مؤذنة بغروب وشيك، والفراغ يديوي بصوت سكونه في أذنيها نحو فتية لم تعرف أكانوا يتأملون جسدها من خلف الحايك الذي كان ترتديه، أم يتأملون وقفتها في منزلق الشمس فدنت منهم سائلة:

- هل رأى أحدكم نسرا طائرا في السماء اليوم؟

حركوا رؤسهم بالنفي!

- هل رأى أحكدم قردا يرقص على الطبل في السوح؟

 نفس الاجابة الصامتة

- هل رأى أحدكم جراء معروضة للتربية؟

- قالوا لا!

شعرت بالحنق والغضب واستدارت عائدة إلى بيتها، 

قالوا ساحرة تبحث عن جوف حيوان تدفن فيها سحرها!

لما أن وصلت العمارة ألفته لدى الباب، لا يحمل عليه من شيء إلا روحه المتعبة، وجسده الذي هدَّه تحالف العمر مع المرض..

- أين النسر؟

- كل النسور هاجرت!

- أين القرد؟

- اختفى أصحاب باؤعها..

- أين.....

توقفي كل القائمة انتفت وانقضت ولم يعد في المحصلة غير الخطة باء، لقد جبت وكلت المدينة شبرا ولم أجد سواه مكان ليطعمك خبزا فيما تبقى لك من عمر..

- بلا قرد أراقصه بطبل؟

- مالك كيف تفكرين!

- بلا كلب القي له بالوديعة فيعيدها إلي؟

- هل أنت جادة؟

- بلا نسر أضعه على كتفي يرهب ويجلب الناس بنظره الحاد؟

- يا امرأة هل بهؤلاء نطلب الصدقة على بواب المساجد؟

- وبمَ نطلبها وما المقابل؟

انتابتها نوبة في الضحك لم تدر مصدرها، أمن إفلاتها من كريمو، الذي لو لم يكن خلف القضبان لتبعها إلى بوابة المسجد، أمن شُح من يصلون الظهر والعصر وهي تعد دنانيرهم، نظير أدعية لن تبرح ظلمة جلبابها الأسود، قبل أن تسرع إلى نافذة بيتها المطلة على الساحة، حين سمعت أصوات ما شبيهة بقحقة قرد، ونعيق نسر، وعاد نباح الكلاب بقوة إلى أرجاء المدينة، استشرفت كثيرا زرقة سماء العصر قبل أن تعود بناظرها إلى صحن الساحة التي مذ تفشى الوباء بقيت ذابلة لا حلقات حول القرود الراقصة على إيقاعات الطبول ولا نسور قائمة على أكتاف سُمر، وقد عاد التدفق إلى شرايينها الممتدة إلى الحواري والأحياء بعد تسعة أشهر من الجفاف من الناس، ثم تنحت عن النافذة وتحولت واقفة أمام مرآة خزانة الفلين المطلية بلمَّاع الخشب، تزن بقايا عودها، لحم وعظام تقاوم زحف الوقت، وابتسمت حين لمحت مما عكسته خلفها المرآة شورت الليل معلقا بمكانه للشهر التاسع تواليا، أدركت في اللحظة تلك أنها كادت أن تنسى..

- غدا ينهي كريمو مدة عقوبته.. فعادت تضحك!

 

 






Share To: