أين أنتِ ؟

الجو غائم. يا ـ بنت قلبي ـ هاهو الطَل يَقَبِلُ الأشجار التي باتت على وشك أن تفقد اخضرارها ، إنه شُباط يا أميرتي الهاربة، الشهر الكريم بالغمام ، الغمام التي تسقط من سماء الله لمعانقة الأرض ، الأرض الموحشة كالحرب ، الحرب من تشبه كقلبِ أبوكِ ؛ أبوكِ المُصاب بِداءِ حُب النقود المُتسخة كأفئدة المُجرمين ، المُجرمين الذين تتزين أكتافهم بالسلاح ، أولئك من يحملون الجُعب والأحزمة الناسفة ، ويصدرون الجُثث إلى بَطن التُراب ، وأنا جُثة سكنت صَدر الكوكب بسبب والدكِ الذي قَتلني ذات لحظة !

آهٍ لكم وددتُ لو أنكِ في جواري ، إنني أرتعد كعصفورٍ بعد ليلة ممطرة ، يااااه لو كُنتِ في القُربِ مني ؛ كنتُ سأحيكُ من ضحكتكِ معطفاً يقيني من برد الشتاء ، سأحولُ اِبتسامتكِ إلى بدلة مُنسقة،  سأرتديكِ متجولاً شوارع هذه المدينة اليائسة ، سأصنعُ من خصلات شعركِ ربطة عُنق تتدلى إلى صدري فأنا لا أراني يوسفاً إلا بكِ يا حَمامتي ، سأضعُ أنفاسكِ الزكية بين عدة زجاجات عَطرية يا بؤبؤ عيني وحروف اللغة كي تعانقني العصافير وتقبلني النوارس حين تشمُ رائحتكِ التي تتطاير من فوق ثيابي ، ثيابي المُطرزة بحروفِ اِسمكِ يا مَجرتي والوجود .

الشهقات الحزينة لا تفارقني ، والاُمنيات التي تطايرت كما تتطاير الأشلاء في هذا الوطن ثم أختفت كما تختفي حُفنات التراب الناعمة بسببِ قوة الرياح ، الدمار الذي فَتتني منذُ رحلت ِ، كل هؤلاء سيئات اقترفهن والدكِ والفقر فجنيتُ ثمارهن أنا وقلبي وقلبي أنتِ ، من سينقذني من كل ذلك يا سحابتي والقطرات ؛ أواه يا اُنثاي ؛ وكأنني ولدتُ لِأعاني ؛ وكأن والدتي أرضعتني حليب الوحدة والوجع في طفولتي وقصتنا أكبر دليل وعلى الحقيقة راقصة ، كم سأنوح حتى أن ألتقيكِ يا وجعي وفرحتي ، يا وجودي وشتاتي ؛ أنتِ يا كل التناقضات ، كم وكم سأحتاج من الدموع أكرِم بهن حياتي الباهتة ولحظاتي اليابسة .

بُتُ حديث قريتي والقرى المُجاورة ، كلما صادفتُ شاباً وطفلةٍ وكهلٍ يلعنونني ، يقدحونني بأبشع السخريات ، ما ذنبي أنا ، ما ذنب هذه القطعة الموظفة بِتوزيع الدم إلى أجزائي عندما تتلقى الصواريخ والقنابل كما يتلقى هذا الوطن الكثير والكثير ، أنا والوطن وجهان لِمحنةٍ واحدة ، كلانا يتجرعان المآسي في ظل صَمت مُهيب من قِبل أولئك الذين كان عليهم إنتشالنا من كل هذا الدمار لا الرقص على صدى جراحنا ، لستُ أفهم لماذا اُبتيلنا بهذا العقاب يا سارة ، ذَنبنا أننا نحلم بحياة بيضاء تسيلُ من أركانها السعادة لكننا اُبتلينا بِشياطين سوداء أكرمونا بالعذاب والركلات . 

ها قد حل شُباط ، الأرض تفرد أجنحتها ، تستعد لموسم هطول الأمطار ، الجبال ترقص طربا ، الحصوات تحولن إلى حبات بيانو ، الأغصان إلى أوتار والورق إلى قصائد  ، الأشجار تتمايل إشتياقا للغيث يا حِلوتي ، السماء باتت عروسٌ تتزين بالفساتين البيضاء ، العريس الموظف برعش السحاب بات يصقل مطارقه الحديدية ، يترقب إشارة من الرب كي يصب جام كَرمه وكَرمهِ غيثٍ نحو الأرض ؛ أما أنا ؛ هأنا أجوبُ السهول والوديان ، أستمع لأصوات الوحوش المُفترسة ، الوحوش تلك من تشبه أباكِ ، إنني أمرُ بلحظات صعبة ، أتجولُ بدون حبيب ولا رفيق أو صديق ، وحدي كما أتيتُ ، كما ولدتُ وفي هذه البُقعة هطلت وفيها سَكنت ، أعبُرُ بمرافقة نبضات قلبي ، نبضاتي اللاتي تصدح بقناديلكِ ، 

إنه شُباط ، هاهو جسدي عارٍ بدون لحاف وبدون معطفاً يحجب عني بقايا الصقيع ، أجزائي ذابلة كحياتي ، كأيامي ، كسنواتي وسنواتي بدونكِ يا حياتي عِجاف ، فمتى سألقاكِ ، متى ستكتحل عيني برؤيتكِ ، متى سأسرق منكِ قُبلة ومن القُبلة أكتب قصيدة ، متى ستضمينني إلى صدركِ ومن ضمتكِ أهديكِ مائة قصة وخاطرة ، متى سألفُ يدي حول خصركِ عابراً بكِ الشوارع والحارات والأزقة ، متى سأصنع من خصلات شعرك حِبالاً ضخمة ثم أطويها حول أعناق المُجرمين وعُنق أبيكِ كي أقتص منهم دفعة واحدة ونعيش نحنُ ويعيش الوطن براحة وطمأنينة ، متى ستهطلين إليّ غيثاً يروي جسدي المُنهك من شدة البُعد والفراق ، متى سيشربكِ قلبي مُزناً ونبيذٍ معتقٍ يا كل الحواس ، متى ستأتين إليّ ونصير عاشقين تغلبا على العادات والتقاليد السخيفة ، متى ستصبح قصتنا بطولة تصدح بها  الأجيال القادمة بل ويحذو حذوفها كُلِ الآباء ، متى سيعلم الجميع أن لا فرق بين هذا وتلك ، بين شاب وفتاةٍ إلا بالحُب الأبيض والعشق الوردي والمشاعر الصادقة .

ما زلتُ في الوديان البعيدة من قريتي يا اُنثاي ، تركتُ منزلي عنوة ، شديتُ رحالي صوبكِ وأنا خالٍ من كل شيء إلا منك؛ أرتذيتُ قميصاً أبيضاً يشبه وجهكِ ، جيبه خالٍ من الورق وجيب قلبي مليء بالإشتياق لكِ ، أخطو كمجنونٍ بدون شعور ، مليء بالمشاعر تجاهكِ فَتِهتُ فرأيتني بدون بوصلة ، لستُ أدري إلى أين أوجه قِبلتي وقِبلتي أنتِ ثم أنتِ لا أحداً سواك ِ،  الحرب قتلت القوانين والأنظمة ، أحرقت الرايات واللافتات لافتةً لافتة ، مزقت العباراتِ عبارات الحُب عبارةً عبارة ، دَمرت المنازل وهدمت الشوارع وخطوط الإسفلت بدون رحمة ، أحدثكِ كشاهد عيان ، لستُ كاذباً يا كل الحياة ، لأني رأيتُ كل شيء أمامي،

شاهدتُ الأرواح تُزف إلى الآخرة ، قِطع الأكفان المضرجة بالدماء والعطورات النتنة ، شاهدتُ كل شيء ،  كل شيء، الدموع التي سالت وأمتزجت بملوحة البحار ، الدماء التي غادرت ومنها الأرض شربت وإلى جوفها تسللت فعانقت حقول البنزين هُناك ، الأشلاء التي دُفنت وتفتت وإلى سمادٍ تحولت ، رأيتُ كل شيء ، لكنني ما زلتُ محصناً بِحبكِ فنجوت،  نجوت لكي أواصل العبور نحوك ِ، أعدكِ أنني سأحطمُ كل الحواجز حتى أراكِ أمامي وحين أراكِ في القُرلِ مني سأنتشلكِ من التعاسات والشتات ، سأضمكِ إلى صدري حتى تعود أنفاسي التي انقطعت، صدري الذي يشتاق إليكِ ، إليكِ يا كُل القصائد والروايات. 





Share To: